حمزة مصطفى||
كنت كتبت قبل أكثر من خمس سنوات مقالا في جريدة "المشرق" بعنوان "علي الوردي .. شخصيته كعراقي". جوهر ما أردت قوله في ذلك المقال أن الوردي تخصص على مدى أكثر من نصف قرن بشخصية الفرد العراقي. الف عشرات الكتب فيها وعنها, قدم مئات المحاضرات وشارك في مثلها من ندوات. نصف قرن والراحل الوردي "شايل سيفه" ويجلد بالشخصية العراقية حق باطل إن صح أو جاز التعبير.
وفي مقابل كل هذا الجلد وربما القسوة فإننا كعراقيين ومنذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن نتغنى بل ونفتخر ليس بالوردي بوصفه واحدا من أبرز علماء الإجتماع العرب وليس العراقيين فقط, بل كيف جلدنا و"طلع حيفه منا" كما لوكان يطلبنا بثأر وليس باحث أكاديمي حصل على أعلى الشهادات في مجال تخصصه من جامعة تكساس بالولايات المتحدة الأميركية. ماذا قال الوردي عن الشخصية العراقية سواء في كتبه أو محاضراته أو ندواته على كثرة ما ألف وحاضر وشارك؟ ملخص رأيه فينا كعراقيين من مختلف الطوائف والأديان والأعراق إننا محكومون بما أسماه التناشز الإجتماعي وإزدواج الشخصية وصراع البداوة والحضارة. ولكي يعزز نظريته فقد أتى بما لم يأت به الأوائل من الأدلة والوقائع والأمثلة والأمثال إن كان من واقع حياة الناس أو من خلال التحولات الكبرى سواء كانت حروبا أو أوبئة وما يمكن أن يترتب عليها من متغيرات في السلوك البشري والعقل الجمعي.
الوردي في الواقع لم يتحدث عن العقل الجمعي أبدا,بينما كتب عنه غوستاف لوبون الفرنسي وأقصد كتاب "سايكلوجيا الجماهير" الذي أثبت فيه أن ماوقع في أوربا في القرنين الثامن والتاسع عشر من وقائع إجتماعية لاتختلف عن أية وقائع يمكن أن تحصل في أي مجتمع آخر متقدما أو متخلفا. ولعل ماوقع مؤخرا في الولايات المتحدة الأميركية بعد مقتل الشرطي الأسود جورج فلويد على يد شرطي أبيض أثبت مصداقية كل ما قاله غوبون, وربما فند في المقابل كثير مما جعله الراحل الوردي وكإنه سلوك حصري للفرد العراقي. مع ذلك وبرغم أن أوساطا كثيرة كانت قد رفضت أفكار وطروحات الوردي وعارضته بشدة لكن هؤلاء وحتى من وجهة نظره هو لم يكونوا أكثر من وعاظ سلاطين وقد كتب عنهم واحدا من أهم بل وأخطر كتبه "وعاظ السلاطين" والذي لايقل كتابه الآخر "إسطورة الأدب الرفيع" أهمية عنه في مجاله وميدانه.
أقول برغم ذلك فإننا في الأعم الأغلب مازلنا نقول نحن العراقيين المجلودين بموجب تلك الأفكاروالطروحات الوردية إن أحدا لم يأت بعد الوردي ليكمل دوره في الجلد والتعذيب والقسوة. هل يعني ذلك أن كل ماقاله الوردي عنا صحيحا أم إنه مثلنا يعاني تناشزا إجتماعيا أوصراعا من نمط آخر بين بداوته التي حملها معه الى تكساس بالولايات المتحدة, وحضارته التي جلبها من هناك؟ في رأيي أن كلا الأمرين صحيح. نحن كعراقيين مجلودين بموجب ما إكتشفه الراحل فينا من نقص أو تخلل في القيم والمفاهيم وعلي الوردي كعالم إجتماع إجترح طريقا لم يكمله أو يقطعه أحد آخر غيره فينا منه وفيه منا. بمعنى أن في الوردي جزء منا وفينا جزء من الوردي بوصفه عراقي لم يتخل عن إنتمائه بل ظل وفيا له حتى آخر يوم من حياته. أدى ذلك من وجهة نظري الى ظهور شخصية عراقية ثالثة أستطيع أن أسميها "الشخصية العلي وردية" والتي تحتاج ,ربما, الى وقفات أخرى.