( بقلم : د. فراس الدجيلي )
في البداية اود ان اشكر صديقي العزيز الدكتور محمد الذي قام بكتابة هذه القصة باللغة الانكليزية ونشرها في موقعiraqthemodelوعلى الرابط التالي: http://iraqthemodel.blogspot.com/2003/12/war-and-peace.htmlبتاريخ9 /12/2003 وانا هنا وبالحاح من بعض الاصدقاء قمت بترجمتها ونشرها مجددا ولكن الذي يهمني فعلا ان يطلع الجميع على رد فعل الناس بتعليقاتهم على الموضوع وهم يتمتعون بالفطرة الانسانية السليمة مع انهم بعيدون جدا عنا بالمكان والثقافة والدين... وكيف يعاملنا اخواننا في الدين والثقافة والبلد ...شتان مابين الاثنين.وها هي القصة كما نشرت:-----------------------------------------"الحرب والسلام"كلما حاولت ان انسى ما مضى ,تأتي الى سمعي قصة تستحضر ذلك الماضي امام مخيلتي ..ما حدث كان مروعا ومن الصعب نسيانه, ويجب علينا ان نجعل العالم يدرك ذلك,ليس من اجل الحصول على بعض الشفقة او التعاطف,ولكن من اجل التأكد ان ما حصل معنا لن يحصل مجددا اينما كان في هذا العالم.لكني في هذه القصة بالذات لم استطع تحمل مقدار الالم والمعاناة بمفردي واردت ان اشارك الجميع باحداثها المحزنة.هذه القصة مهداة لكل الذين عارضوا ما حدث في العراق ,اي الى العالم العربي والاسلامي و(فعاليت السلام) على امل انها ستجعلهم يقفون لبرهة ويعيدون النظر ب(وقفتهمم النبيلة).فهذا احد الامثلة التي يمكن ان يساعدهم في تصور (السلام) الذي كنا نعيشه في زمن الطاغية..............التقيته في احد محلات استنساخ الصور يمتلكه صديق لي,والذي قام بتعريفنا على بعضنا الاخر,اسمه فراس محمود يعقوب,طبيب مقيم في مستشفى الكرخ الجراحي في بغداد,شاب خجول,ممسكا بعض الصور لرجال ونساء واطفال ,يريد الحصول على نسخ منها,لذلك شعرت ان هناك قصة وراء هذه الصور فلم استطيع ارضاء فضولي فسألته عنها؟فقال:"انا من الدجيل"فهمت ما قصد.في عهد صدام اعتدنا على الهمس عند ذكر الدجيل, فكلنا يعلم بالمأساة التي جرت هناك, لكننا لم نكن نجرأ بالسؤال عن التفاصيل ولم التقي باي واحد من هناك .اما الان فاستطيع معرفة ذلك كله من صديقي الجديد , وها هي القصة وبكلماته هو:-"الدجيل هي بلدتي الام, تعودت دائما ان انظر لها بانها جنة الله على الارض, تقع على بعد 60 كلم الى الشمال من بغدادعلى ضفة نهر الاسحاقي (فرع من دجلة) ويسكنها الالاف من السكان ومعظمهم من الفلاحين والمزارعين, وبلدتنا مشهورة بنخيلها واعنابها,وبطبيعتها الساحرة التي تأخذ الانفاس والالباب, واناسها مرتبطين بانساب عشائرية قوية تبقيهم دائما كعائلة واحدة كبيرة.-التاريخ:8/7/1982, قرر صدام زيارة الناحية ,فقام حزب البعث في المنطقة بتوجيه الناس ليقوموا باستقبال كبير له, اخذونا من المدارس (كنت في السابعة من العمر) ورتبونا بصفين على جانبي الطريق لنلوح له ونهتف باسمه.لم اتخيل ابدا انه سيكون اخر يوم لي في عالم الطفولة,فقد اجبرت على تخطي تلك المرحلة من حياتي بصورة قاسية وبطريقة يصعب شرحها.- سبعة عشرمن الشباب المؤمن في الدجيل كانوا قد قرروا وضع نهاية لحياة الطاغية في ذلك اليوم ,كانوا يملكون الشجاعة ليواجهوه ..لكننا لم نعلم بنيتهم هذه.اتخذ هؤلاء الشجعان مواقع بين اشجار النخيل بانتظار مرور موكب الطاغية ,غير انهم لم يعرفوا اي سيارة كان الطاغية يستقل حيث كان مصحوبا بالعديد من السيارات التي تتشابه بالموديل والالوان.- بدأ الهجوم, وفتح هؤلاء الشجعان النار من اسلحتهم البسيطة,فقتل بعض حماية الطاغية و جرح اخرون,فارتعب الطاغية ,تخيل هذا!! (صدام خائف) الرجل الذي يتمتع بارهاب الناس يعيش لحظات من الخوف بكل تفاصيلها, فقد كان قريبا من الموت هذه المرة. ثمانية من المنفذين استشهدوا في العملية, ونجا الباقون بانفسهم الى خارج الوطن.ولكن...(ويل للجناة) ....من تجرأ ليجعله مذعورا؟عليهم ان يخافوا انتقامه,عليهم ان يتعلموا درسا لن يكرروها بعده,عليهم ان ينحنوا اكثر واكثر و يخافوا اكثر واكثر,عليهم ان يشعروا بالذعر حد الموت لكي لا يتجرأوا حتى بمجرد التفكير بايذائه مجددا,فهو كما يعتقد...... ظل الله على الارض.-جاء الرد سريعا, فبعد ساعة واحدة من هروب الطاغية ,كان علينا مواجهة غضبه, فكانت اصوات الهيليكوبترات تسمع في سماء البلدة تصب عليها الحمم الحارقة,لتعود فيما بعد مع الجرافات التي تركت الباستين الخلابة ارضا جرداء, فالامر كان واضحا (الرعب يجب ان يكون عظيما) لكي يتعلم الاخرون الدرس جيدا.هربت الى منزلنا لاختبئ في احضان امي, انضم الينا اخي الصغير و شقيقتاي ,ادركت حينها ان خطبا جلل قد وقع وان الاتي اسوء. لم يستغرق الامر طويلا حتى جاء رجال الامن الى دارنا الصغير,فتم اعتقالنا انا وامي (التي كانت حامل في الشهر الرابع من الحمل) واختي ايناس (خمس سنوات), واختي زينة (ثلاث سنوات), واخي محمد (سنة واحدة) الى جهة مجهولة.-المحطة الاولى في هذة الرحلة الطويلة كانت سجن الحاكمية التابع للمخابرات العراقية,هناك وجدنا المئات من ابناء بلدتنا,شيوخ ,شباب, رجال,نساء واطفال, كنا نبلغ 480 شخص تقريبا منهم 80 شخص تقريبا من اقربائي .في عهد الطاغية كان يكفي ان تقول كلمة (الحاكمية) لاي عراقي ليشل خوفا في مكانه... حيث اعتدنا استعمال عبارة (من دخله مفقود ومن خرج منه مولود) على هذا السجن الذي تحكي جدرانه الاف القصص المرعبة التي ترفض تصديقها. كنت ما ازال صغيرا لادرك لماذا كنا نعامل هكذا ,ولكني ادركت بالتأكيد معنى الخوف حد الموت...صوت وقع الاقدام التي تتوقف فجأة بالقرب من باب الزنزانة كان كافيا لجعل الكل يتجمدون من الخوف, لان الباب ستفتح,وسينادى على اسم من الاسماء ليجر الى غرفة التعذيب ليعود بعد ساعات من التحقيق فاقدا للوعي , مغطى بالدم, وملفوف ببطانية بالية ليسهل حمله ويرمى في الزنزانة وهكذا.النساء والاطفال كان لهم حصتهم ايضا وهذا مما رأيته بعيني: قلع للاظافر والاسنان , صعقات كهربائية, جلد بالسياط, استعمال الشفرات لتمزيق الجلد على شكل شرائح, احدى عماتي تركت معلقة بالسقف بعد ان جردوها من الثياب امام عمي الذي هددوه باغتصابها امامه اذا لم يعترف,هل تتصورون حجم الالم الذي عانيناه؟ هل تتخيلون؟ انا اشك بذلك.بقينا في الحاكمية لمدة شهر , حيث المكان ضيق جدا ولم يكن ليسع الجميع لكي يناموا فكان على البعض ان يبقى واقفا على قدميه ليتمكن الاخرون من النوم.-بعدها تم نقلنا الى سجن ابو غريب , هناك التقينا بالرجال من المعتقلين للمرة الاخيرة ,فبعد ذلك تم فصل 143 رجلا عنا ونقلوا الى الى سجن اخر , بينما ابقوا الاخرون في سجن ابو غريب لمدة ستة اشهر , خلالها ازف يوم ولادة امي الحامل ولسوء الحظ انها كانت ولادة متعسرة جدا ومع ذلك لم يأخذوها الى المستشفى الا متأخرا ولم يسمحوا للنساء بمحاولة مساعدتها على الولادة ,اختنق الطفل اثناء الولادة ومات, اما امي فلم تعرف اذا كان طفلها بنتا ام صبيا حيث اخذوه منها ولم تعلم اين ذهبوا به.في السجن , توفي على الاقل اربعة اشخاص , منهم جدي (يعكوب يوسف), وزوجة خالي (نوفة حسن) وشيخ كبير (عبد الوهاب جعفر) و زوجته (صبرية) , بعد ذلك تم نقلنا الى معتقل في الصحراء , قرب الحدود العراقية –السعودية,400 كلم جنوب غرب بغداد (معتقل ليا الصحراوي).قضينا في السجن اربع سنين ..اربع سنين في الجحيم, معزولين عن العالم , ولم يكن بوسعنا الا البقاء على قيد الحياة والدعاء لرجالنا المعتقلين الذين لا يعرف مصيرهم.اطلق سراحنا نحن الاطفال والنساء في عام 1986 , وعندئذ فقط بدأت رحلة جديدة من الالام والمعاناة .كان علينا البدء بحياة جديدة حيث ان كل ممتلكاتنا قد صودرت وما زلنا نجهل اي شيء عن الرجال من المعتقلين.لكن الطيبون والاخيار من ابناء بلدتنا الذين نجوا من الاعتقال اعانوننا و ساعدونا وقدموا لنا الاعمال في اراضيهم الزراعية واماكن للاقامة فيها مؤقتا, كان علي ان اعمل مع باقي اخوتي الصغار لنكسب عيشنا والاستمرار بدراستنا .الزراعة مهنة مرهقة جدا للاطفال بعمرنا, ولكن لا يهم فقد اجتزنا مرحلة الطفولة مسبقا بالرغم عنا.من الصعوبة جدا تخيل الحياة عندما تكون مشتبها به في اعين عناصر الامن الذين يلاحقونك باستمرار ,ويضيقون عليك انفاسك , ويجعلون حياتك اصعب ياستمرار, و مع ذلك كان علينا ان نعطيهم جميع ما ندخر للحصول على معلومات عن احبائنا المفقودين, وكانوا باستمرار يعدوننا باخبار جيدة, وبان احبائنا احياء ويعاملون بصورة حسنة.في الحقيقة لم نكن نصدق ذلك... ولكن ما معنى الحياة بدون امل؟!-بعد ستة عشر عاما... اكتوبر 2001 انهيت دراسة الطب وبدأت بممارسة عملي كطبيب في بغداد. وفي نفس السنة , واجه صدام اوقات صعبة, فالولايات المتحدة و حلفائها ضيقت الدائرة حوله, فقرر اطلاق سراح جميع السجناء , بما فيهم السجناء السياسين....كان هذا ادعائه ... ولكن الحقيقة انه اطلق سراح السراق والقتلة.دموعنا تاهت في الطرقات وهي تحاول ايجاد اقربائنا بين الاف الوجوه , وفي كل مرة نسألهم عن احبائنا يطمئنوننا بان هناك مجموعات اخرى سيطلق سراحها في اليوم التالي, ولكن امالنا ذهبت ادراج الرياح, نعم ليس لدينا سوى الله لندعوه ونطلب عونه ليرشدنا الطريق.التاريخ:9/4/2003, انا لا استطيع التصديق , سقط الطاغية, هل هذا حلم ؟هل هذا يعني لامزيد من الخوف, لا مزيد من الرعب, ولا مزيد من الموت؟قفزنا الى الشوارع نطلق النار على صور الطاغية و تماثيله التي احاطت ببلدتنا التي اختطفها في ليلة ظلماء.المدن والقرى نبذته ونبذت اسمه ............... لقد تم انقاذنا.تنفست الصعداء ,فكان في الهواء عبير الحرية, ولا شيء يمكن ان يكون اجمل, من الصعب وصف ذلك, لكننا كنا منتشين بالسعادة,ولا شيء ينغص علينا سوى السؤال (اين يمكن ان يكون احبائنا).بدأنا البحث في مديريات الامن في بغداد ,مثل الالاف من العراقين, عن اي اثر لاحبائنا, ولم يطل الامر طويلا, حيث عثرنا على ما نبحث عنه.وثائق عن الجريمة المروعة,قرأت والدموع في عيني,المرسوم الجمهوري الموقع من قبل الطاغية نفسه, يأمر باعدام 143 من رجال الدجيل, اصغرهم (نجم عبد كاظم) 11 سنة من العمر.وبين هؤلاء , 35 رجلا من اقربائي.السلام على تلك الارواح الطاهرة ,واسكنها الله فسيح جناته, فلولا شجاعتهم والدماء التي بذلوها لما كنا نعيش بفخر وعزة.يا صديقي هذه هي القصة وراء تلك الصور, فالان يجب ان يحظوا بتشيع مهيب ومحترم, مع اننا لم نعثر على رفاتهم بعد, لكنهم سيبقون دائما في قلوبنا"لكن صديقي فاجئني بالقول" نحن لم نندم على الذي حدث لنا,وبالامس, عندما عاد تسعة من المنفذين الذين بقوا على قيد الحياة الى العراق, استقبلناهم بالزهور , كبقية ابطال العراق,ولم نلمهم على فعلوه ابدا, لانهم هم الذين رفعوا روؤسنا عاليا"هذا ما كان يبدوا عليه السلام في العراق في زمن الطاغية.المعركة لم تنتهي بعد, فالشياطين والمجرمين القساة في كل مكان , ولن يستريحوا حتى يخطفوا منا حلمنا , غير اننا الان اقوى, لاننا لسنا وحدنا.فكل الناس الطييبون والاخيار على الارض اخذوا على عاتقهم النضال الى جانبنا,فنحن نكره الحروب واراقة الدماء التي تأتي معها ولكننا سنخوضها اذا لم يكن امامنا خيار اخر.تعالوا جميعا نحلم بعالم للمحبة والسلام الحقيقي.ملاحظة:كل نسخ الوثائق بامكانكم ايجادها عند الدكتور فراس محمود يعكوبfirasyaqub@hotmail.com
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha
![](https://telegram.org/img/t_logo.png)