( بقلم : بشرى امير الخزرجي )
حنين.. طفلة صغيرة تعيش مع جدتها في بيت جميل من بيوت البصرة القديمة، يقع هذا البيت في آخر زقاق ضيق، تبدو فيه البيوت وكأنها تحضن بعضها بعضا، أما شبابيكها فهي ملتصقة ومتشابكة كتشابك أهل ذالك الزقاق الشعبي الجميل الذي يضم في ثناياه أطيافا ومذاهب عدة، كونوا لسنين طوال توليفة اجتماعية قل نظيرها.. حنين كأقرانها من الأطفال تحب اللعب مع صديقتها الجارة الصغيرة ليلى، البنت التي كان أهلها من الصابئة المندائيين، كانتا تلعبان أمام باب البيت عصر كل يوم، وفي عطلة يوم الجمعة يتناوبن على ممارسة لعبة الطاق (التوكي) والقفز بالحبل وغيرها من اللعب الشعبية المسلية.
حنين وليلى صديقتان حتى في المدرسة تجلسان على رَحلة (مسطبة) دراسية واحدة، ذات يوم شتوي ممطر قر، جاءت ليلى الى المدرسة لم تكن ترتدي ثياباً تقيها البرد فراح جسدها الصغير يرتجف كسعفة هزها ريح عاصف، سألتها حنين بعفوية هل تريدين جاكيتي ( سترة من الصوف ) هذا الذي أرتديه؟ خذيه إلبسيه اليوم ثم أعيديه إليّ غدا، لأني أحبه كثيرا حاكته لي جدتي! انتبهت معلمة الصف الى المشهد، فشكرت حنينا على موقفها الإنساني رغم صغر سنها، وكذا فعلت ليلى بعد ان قبلت عرض جارتها وزميلتها التي آثرت على نفسها بجاكيت الجدة الصوفي الجميل، وارتضت لنفسها تحمل بعض لسعات البرد.
مضت الأيام والسنين وحنين وليلى صديقتان لم يفرقهما شيء.. كن يتبادلن التهاني والهدايا فيما بينهما في الأعياد والمناسبات ، فحنين المسلمة التي تنتمي لمذهب أهل البيت (ع) هي نفس ليلى الصابئة المندائية ، كان يجمعهما حلم واحد وأمل واحد هو أكمال الدراسة لرد جميل البيت الكبير العراق العظيم .
كانت جدة حنين تقيم مجالس التعزية في ذكرى أبي الأحرار الإمام الحسين (ع) في بيتها الشناشيلي القديم .. كان جميع الجيران يحضر هذا العزاء ، من ضمنهم ليلى وأمها للمشاركة والتبرك في إعداد الطعام الذي كان للفقراء والمحتاجين الحصة الكبرى فيه.
لم تكن جدة حنين تسأل عن هوية أو مذهب القادم الى مأتمها .. كانت تستقبلهم بكل حب ومودة وصدر رحيب، حتى غدت أمّا وجدة لكل بيوتات الزقاق، يتبادلون معها الزيارات في الأفراح والأتراح، فهي قلب يفيض حنانا على من حولها أيا كان دينه أو مذهبه، لا فرق عندها فجميعهم أبناء هذا الوطن الطيب كطيبتها. لم تكن تفكر هي وحبيبتها حنين ان يوما ما سيأتي ليسلبها هذا التعايش الجميل حين استفاقت ذات يوم على صوت الباب يقرع وبشدة لينذرها الطارق بأن عليها ترك الدار والرحيل الى دولة مجاورة رغم أن مسقط رأسها هو العراق.
وعلى عجل أمروها بالرحيل دون ان تجلب احتياجاتها البسيطة من ملبس وطعام، كانوا غلاظا أشداء في الباطل، سحلوا الجدة والصبية حنين الى خارج البيت دون رحمة، توسلت الجدة والبنت بهم ليمهلوهما وقتا وان كان قصيرا ليودعا الأحبة والجيران، وان تعانق حنين صديقة عمرها ليلى العناق الأخير دون جدوى ، تأثر الجار القريب والبعيد بالموقف، لماذا عليهم ان يرحلوا ويتركونا ويتركوا وطنهم سألت ليلى أمها؟ نظرت الأم الى السماء وهي تقول لا أعلم بنيتي لكنه الظلم لا شيء سوى الظلم.. وهل سأرى صديقة طفولتي حنين يوما ما؟! علمها عند الله حبيبتي! تلك هي صور ة من ماضي ليس ببعيد ،فها هم زمر الأمس قد عاد أبناؤهم الظلمة اليوم ليقتلوا الناس ويهجرونهم على الهوية الطائفية . وضلت حنين في منفاها تنشد للوطن وللعودة أنشودة مافتأت ترددها ويرددها معها كل مغترب عن وطنه والحنين يعصر قلبها .. هاج شوقي للفرات والنخيل الباسيقات .. إنني آتٍ قريباً ليس يثنيني الطغاة .. جئت زحفاً يا صديق رغم أشواك الطريق شب في قلبي حريق أججته الذكريات.
بشرى أمير الخزرجي _ لندن
https://telegram.me/buratha
