محمد الكعبي ||
زيارة رئيس الولايات المتحدة الامريكية (جو بايدن) للمنطقة العربية في منتصف تموز عام 2022م والتي تحمل في طياتها الكثير من الرسائل ومحاولة منه لتكريس مفهوم الدولة العظمى والقوة التي لاتقهر، ولكن عند مراجعة مخرجات الزيارة نلاحظ أن الامور لم تجري وفق الرؤيا الامريكية ولم تكن على مستوى الطموح المنشود، نعم ليمكن التغافل عن تفوقها العسكري وانها مازالت تمسك بخيوط اللعبة الدولية وانها في الصدارة عالمياً لكن في نفس الوقت نجد هناك تراجع لاسباب متعددة سنحاول ان نقف على بعضها، حيث نجد شهيتها قلت عن اللهث وراء الحروب الخارجية وخصوصا بعد الانسحابات المتكررة من بعض مناطق تواجدها متزامنةً مع صعود قوى تسعى للحيلولة دون انفراد امريكا بالمشهد الدولي، قد يفسر البعض انسحابها من افغانستان خوف من ان تكون في موقف ضعيف لا يساعدها على التفاوض أو المواجهة مع الروس تحسباً من أن تستخدم موسكو ورقة افغانستان ضدها وخصوصا اذا اخذنا بنظر الاعتبار جمهورية سوريا وتواجد القوات الروسية فيها، كما لايمكن التغافل عن تراجع رغبت واشنطن في الشرق الاوسط بسبب مواجهتها للصعود الصيني والتحدي الروسي في مناطق مختلفة من العالم والتي تعتبره واشنطن تحدياً كبيراً لها ومن أولولياتها، مع الاخذ بالاعتبار وجود اسرائيل في المنطقة العربية وهي من اهم اهتماماتها، وما توقيع( جو بايدن) مع رئيس الوزراء الاسرائيلي (يائير لبيد) على ( إعلان القدس للشراكة الاستراتيجية) في 14/ 7/ 2022م، الا دليلا على ان اسرائيل من اهم المرتكزات الاميركية.
تنص الاتفاقية الموقعة بين واشنطن وتل ابيب على التزام الولايات المتحدة الثابت بأمن إسرائيل والحفاظ على تفوقها العسكري النوعي في المنطقة وعلى منع ايران من امتلاكها السلاح النووي ومواجهة انشطتها وانشطة وكلائها في المنطقة، و ومحاولة دمج اسرائيل مع دول المنطقة من خلال التطبيع مقابل التزام امريكا لأمن اسرائيل والدفاع عنها ومحاربة القوى الصاعدة في المنطقة وبالذات ايران، مع تمكين تل ابيب من البقاء على تفوقها العسكري، وما قمة جدة التي شارك فيها العراق ومصر والسعودية وقطر والبحرين والاردن والكويت والامارات وعُمان الا محاولة امريكية لتاسيس نظام اقليمي يظم الكيان الاسرائيلي ويهدف لتحويل الانظار من اسرائيل العدو إلى ايران العدو الجديد والذي ينبغي على الجميع التحالف لمواجهة ايران وجعلها العدو الاول، وادخال المنطقة في صراعات جانبية من قبيل الطائفية والقومية والحدودية والمائية و....
تسعى واشنطن منع الصين وروسيا وايران من النفوذ في المنطقة وتحجيم دورهم في المنطقة، وان التقارب الصيني الايراني الروسي يشكل هاجس يقلق امريكا لما به من تداعيات خطيرة جدا على البعد السياسي والامني الأمريكي، لذا تسعى واشنطن من اعادة ترتيب اوراقها مع شركائها، ورغم كل ما قدمه الرئيس الاميركي من طمأنت الشركاء بانه الراعي والحامي لهم وللمنطقة والمحامي عنهم الا انه لم يحصل على ما سعى اليه، الا ان عدم الثقة بواشنطن كان واضحا عند العرب نتيجة تخلي واشنطن عن شركائها وحلفائها وتنصلها عن مسؤولياتها ومواثيقها وما صدام وحسني مبارك وزين العابدين بن علي الا نماذج من تخلي امريكا عن حلفائها.
لم يكن هناك دعم خليجي بالمستوى الذي كان يريده بايدن لمواجهة ايران، بل الجميع يدرك ان امريكا يمكن ان توقع اتفاقية بخصوص البرنامج النووي الايراني اذا اقتضت
المصلحة الامريكية وهذا يُعرض الدول إلى مواجهة ايران مباشرة وبمفردها وهذا ما لا تريده أي دولة، لذا لم يكن اتفاق أو اجتماع جدة بالمستوى المطلوب ولم يحقق الرغبات الاميركية التامة بل كان اتفاقا ناقصا يشوبه عدم الثقة والخوف من المستقبل الذي يحمل في طياته الكثير من المفاجئات والمتغيرات والتي قد لا تلبي الطموحات الخليجية أو العربية ، لذا لم يحقق الاتفاق زيادة الانتاج النفطي لتعويض عن نفط روسيا الذي منع من التدفق إلى اوربا وأمريكا، ولم تكن الاستجابة السعودية بالمستوى المطلوب التي كانت تعول عليها واشنطن.
كان يعتقد فرانسيس فوكوياما عام 1989م، ان النهاية الحتمية للتاريخ بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي لكنه بعد احداث افغانستان يرى ان النهاية الحتمية هي لأمريكا، حيث الارباك السياسي الداخلي في امريكا خسرها الكثير من موقعها العالمي ولم تعد تلك القوة المهيمنة المتجبرة على العالم كسابق عهدها وهذا مؤشر على تراجعها عالميا ــ هذه سنة الله في عالم الوجود ـــ ان القناعة لدى القيادة السياسية الامريكية لم تعد مثل سابقتها بل تحاول لملمت الامور الداخلية خصوصا أن هناك مؤشرات ومعلومات تأكد سعي بعض الولايات الامريكية للاستقلال والخروج عن سيطرة واشنطن وتعلن عن نفسها انها دول مستقلة وهذا بحد ذاته اربك القادة الامريكان مما جعلهم يعيدون النظر بالمشهد الداخلي الامريكي، فضلا عن الانقسام الداخلي بين دوائر القرار والصراع الخفي بينهم ومحاولة تقويض احدهم للآخر، ولا نتغافل عن مشاكل الضمان الصحي والفقر والبطالة والمشردين والهجرة والتمييز العنصري وقانون الضرائب والتفسخ الاسري والمخدرات وجرائم القتل والاغتصاب والسرقة والفساد في دوائر الدولة وغيرها من المشاكل التي ترهق المواطن والحكومة الامريكية.
القوة المفرطة:
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في العام 1991م، وتفرد امريكا بالنظام العالمي حيث اصبحت القطب الاوحد بدون منافس وتحكمت بأغلب الدول والمنظمات والهيئات والمؤسسات العالمية فضلا عن الاقليمية والمحلية وبسطت نفوذها على مقدرات العالم، باعتمادها على الجانب العسكري والقوة المفرطة التي تمتلكها فقامت باحتلال دول والتحكم بأخرى وفرض ارادتها على دول لترسيخ مصالحها، محاولة منها لسد جميع الثغرات وقطع أغلب الطرق أمام أي نظام أو حكومة تفكر في التصدي للمشهد السياسي العالمي فانتهجت اساليب مدمرة فخلفت الحروب والموت والدمار والمرض في الفيتنام والعراق واليمن وسوريا وافغانستان وفي كل بقعة كانت لواشنطن بصمة لها فيها، فدعمت الحركات المتطرفة والاعلام المنحرف والمنظمات الارهابية بغية ادخال المنطقة والعالم في دوامة العنف والدمار، وبسبب القوة الامريكية والقدرة العسكرية وضعف الشعوب وخنوع الانظمة الحاكمة لبعض الدول أدى إلى فشل جميع التفاهمات والحلول معها بل كان رايها هو السائد وهو النافذ، مما أدى إلى حصول تنازلات كبيرة من قبل تلك الدول والانظمة، وما شعار محاربة الارهاب إلا ذريعة لتصفية خصومها وما حصل في العراق وافغانستان لخير دليل على زيفها وخداعها وكذبها، لكن لم تكن الامور تجري كما خططت له الحكومة الاميركية، فبرزة قوة منافسة ومعارضة اخذت بالتوسع مثل الصين وروسيا وايران وكوريا وبعض الانظمة التي لم تخضع لها، فدخلت فكرة التعددية لقيادة العالم والتمرد على النظام العالمي الامريكي خصوصا بعد سقوط نظرية الديمقراطية التي تتبجح بها الولايات المتحدة وفشلها على مستوى الواقع مما أدى إلى تراجع التأييد العالمي والشعبي لها، حيث اقتنع العالم ان امريكا تتدعي نظريات وتتبجح بشعارات لاتنسجم مع الواقع بل تخالفه وهي نفسها لا تعمل بها ولا تطبقها في الداخل الامريكي واغلب ما جاءت به واشنطن يخالف ما تؤمن به تلك الشعوب من قيم ومبادى واعراف.
ان انهزام الجيش واجهزة الامن الافغانية امام حركة طالبان مع فشل امريكا ومخابراتها شكل صدمة كبيرة لدى واشنطن وخصوصا بعد ان بذلت على تدريبهم وتجهيزهم ملايين الدولارات مما أثر على سمعتها ومكانتها العالمية وافقد الثقة بها وبكل عهودها ومواثيقها، حتى اصبحت كابل تحت قبضة طالبان، وهذه الحدث بحد ذاته يعتبر ضربة موجعة للدول الغربية وامريكا بالذات ولكل من يحتمي بامريكا، لأنها غزت افغانستان بحجة الاطاحة بحكم طالبان الارهابي المتشدد والقضاء عليه تماما، لكن تسليمهم الحكم مرة أخرى وترك البلاد لهم يتحكمون به كما يشاؤون جعل الحلفاء يعيدون التفكير الف مرة ويتاملون كثيرا بعلاقاتهم المستقبلية ومراجعة المشاريع السياسية الاستراتيجية مع امريكا، ولم تتحقق الاهداف المعلنة وغير المعلنة للولايات المتحدة والتي تبجحت بها من شعارات الديمقراطية ومحاربة الارهاب والمساوات وحقوق الانسان وغيرها من الشعارات، وقد خسرت امريكا أكثر من ثلاثة ترليون دولار والتي كانت تسعى للحصول عليها من خلال الاستيلاء على الثروات المعدنية من افغانستان، بل تكبدت خسائر كبيرة بسبب الانفاق العسكر والتي تقدر بتريليوني دولار ومقتل 2500 مقاتل من قواتها، وتلاشت أهم اهدافها كما صرح احد قادتها السابقين وهو الكلولونين لورانس ويلكرسون وهي:
• تواجدها العسكري في وسط الممرات المؤدية لمشروع الصين التجاري ومنع بكين من التوسع، وقطع الطريق عليها وعلى إكمال مشروعها، وخصوصا مشروع (الحزام والطريق).
• تواجدها بجوار دولة باكستان التي تحتفظ بمخزون نووي كبير.
• تواجدها بالقرب من الاقلية الاغيورية والتي تقدر ب20 مليون نسمة والتي تسعى الحكومة الامريكية لاستغلالها ضد الصين وجعلها ورقة ضغط بيدها تستعملها في ما فكرت الصين التوسع والتغلغل في الدول من خلال التجارة والعمل في اكثر من منطقة وبالذات الشرق الاوسط.
فضلا عن فقدانها التأييد الشعبي في الداخل الامريكي وفي باقي دول العالم، وبروز اصوات معارضة لها من قبل بعض الدول والحركات السياسية والمنظمات، وخسائرها المالية والبشرية الكبيرة مما اضعفها ولو نسبيا وفتح المجال لبروز قوة دولية واقليمية تحاول أن تأخذ دورها.
خروج امريكا من افغانستان ضيع عليها هذه الاهداف الحيوية وافقدها الفرصة وفتح المجال للصين من السير بخطى حثيثة لاكمال مشروعها العالمي فضلا عن روسيا وايران وكوريا والتي لاتقل اهمية عن الصين بالحسابات الامريكية، ولم تكن الهزيمة في افغانستان هي الاولى بل سبقتها هزائم متعددة ففي حربها مع الفيتنام ايضا انهزمت بحرب طالت ما يقارب 15 عاماً، وفي امريكا الوسطى والصومال انهزمت وفي
العراق تم تحجيم دورها بعد ان خسرت الكثير من جنودها.
وبدأ تراجع الهيمنة الامريكية في زمن بوش الابن عندما غزى الروس جورجيا عام 2008م، وقد بان التراجع واضحاً في الجانب الخارجي للسياسة الامريكية من خلال انسحابها من بعض الاتفاقات الدولية والتنصل عن تعهداتها وتحجيم مشاركتها في المفاوضات والاتفاقيات الدولية وخصوصا تلك التي تحتاج إلى اطراف متعددة، مع فقدان الثقة بها من قبل الشركاء الدوليين وانحيازها إلى اطراف دون اخرى وتاييدها لبعض الانظمة القمعية، ومحاولتها إضعاف النظام الدولي، وتعاملها بازدواجية وبنفاق واضح وفاضح.
سيتيح التراجع الأمريكي المجال للصين من دخول الساحة الدولية مستغلة تراجع دور واشنطن في اغلب الملفات والمساحات الخارجية، ومحاولت بكين التمدد في مساحات واسعة ومحاولة تقاسم النفوذ مع واشنطن لتشكيل نظام عالمي يشارك فيه اكثر من طرف، وقد سعت الصين إلى تقوية تحالفاتها وعلاقاتها الاقتصادية من خلال (منظمة شنغهاي)، للتمكن من أخذ دور امريكا لتصبح الشريك الاكبر بدل أمريكا لأوروبا واسيا.
ومن خلال ما تناولناه فهناك متغيرات ومفاجئات ستعصف بالبيت الابيض وستتغير خارطة العالم بشكل تدريجي وسيعيش العالم صراع من نوع آخر وبشكل مختلف قد لايكون اسعد حظا ان لم يكن اتعس، فلكل مشروع ازماته ومشاكله خصوصا المشاريع التي لاتستند إلى البعد الرباني والتي تعيش التفكير البشري الوضعي الذي يقوم على خدمة المصالح الخاصة دون الاخرين قد تكون هناك مكاسب على المدى القريب لكن لو امعنا النظر لوجدنا الوجه القبيح لكل مشروع لايعتمد على اسس اخلاقية انسانية وهذه هي مشكلة البشرية الكبرى والتي كانت وما زالت تعاني منها الانسانية منذ القدم وهي الابتعاد عن المشاريع الربانية، فلا سعادة الا بمشروع اصلاحي عالمي منبثق من رؤية حقانية انسانية خطة يد لايشوبها الخلل والاشتباه تتكفل بإدارة العالم وتسعى لتحقيق السعادة المطلقة للبشرية.
ــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha