( بقلم : د. خزعل فارس الجابري )
إشكالية مزاولة رجل الدين للعمل السياسي كانت و لازالت إشكالية تحتل الصدارة في البحث و النظر و لسنا نعني بهذه الإشكالية ما تطرحه المدرسة العلمانية و الليبرالية التي تكاد تحكر على رجل الدين مزاولة السياسة تحت حجة إن ذلك يسهم في نسبة الخطأ للسياسي إلى خطأ النظرة و المعالجة التي يطرحها الدين لعديد القضايا و كأن الدين و المتدين أو رجل الدين شيء واحد . بل ننطلق في التحليل و المعالجة ضمن الإطار الإسلامي و بالتالي فإن الإشكالية المعنية ليست سوى " أهلية " المتصدي للشأن السياسي من رجال الدين و نقصد برجل الدين هو المنتسب إلى المؤسسة الدينية بعنوانه الشخصي و فكره الإسلامي معا . فالإسلام السياسي يضع في أولوياته شروطا واضحة لكل من يريد أن ينهمك في التعاطي مع السياسة حاملا فكرا إسلاميا و منطلقا من كونه شخصا يرتدي الزي الديني و ينطبق عليه أي من العناوين الشرفية المتداولة . لهذا فالإسلام الحركي لا يبيح لكل من ارتدى العمامة و انتسب إلى المؤسسة الحوزوية ممارسة السياسة ما لم يكن متوفرا على شروط تجعله مؤهلا بالفعل للقيام بواجبه لما يحفظ له و للإسلام الذي يمثله مصالحه و هيبته و ألا يحط من شأنه في نظر المجتمع . و من بين الشروط التي تختبر ميزان الأهلية هي الإلمام بكيفية التعامل مع الأحداث و مجرياتها و التوفر على قدر معقول من التجربة و الحنكة و بعد النظر و أن يكون ثمة مشروع سياسي واضح يصب في خدمة الصالح العام و مجمل القضايا الوطنية و ألا يكون الشخص مرهونا بمصدر قرار خارجي يملي عليه ما يريد و يحيله إلى مجرد دمية تتحرك بخيوط معلنة أو خفية . و فقدان أي من هذه الشروط سيلحق الضرر عاجلا أم آجلا بالشخص نفسه و بأتباعه و بالفكر العقائدي الذي يدعي الانتساب إليه و بالوطن و المواطنين لا محال .
برز مقتدى الصدر عقب سقوط النظام المقبور بعد تشظي أتباع السيد محمد صادق الصدر بين من ذهب إلى مرجعية معينة أو تحلق حول من ادعى مرجعيته و أعلميته دون غيره و منهم شباب لا زال يراهق في سلم الدراسة الحوزوية كمحمود الصرخي و الطائي و البعقوبي و البغدادي و غيرهم مع احترامنا لأشخاصهم لأن القضية لا تتعلق بالأشخاص قدر تعلقها بالعناوين التي ادعوها لأنفسهم كونهم هم اعلم من غيرهم و يبدو أن شيوع ظاهرة ادعاء الأعلمية كانت بوحي من سابقة السيد محمد صادق رحمه الله الذي سلب مراجع معروفة أهلية الاجتهاد و ادعى أنه أعلم الأحياء و الأموات . و لم يكن مفتدى الصدر قادرا على تكرار دعوة والده لأنه لم يبلغ في دراسته شيئا يذكر و هذا ما يعرفه عن نفسه و ما يعرفه سائر الناس عنه في أروقة الحوزة النجفية و خارجها . و مقتدى الصدر من مواليد 1973 شاب قليل الخبرة و لا عهد له بالشؤون السياسية لا من قريب و لا من بعيد ، و جاء تصدره لما عُرِف فيما بعد بالتيار الصدري تحت ضغوط مجموعة من أتباع والده و الذين خلعوا عليه لقب " السيد القائد " و هؤلاء كان بعض منهم قد قدم من سوريا بعد الإطاحة بالنظام البائد حاملين أفكارا روّج لها بعض الكتاب في سوريا و لبنان و حاولوا الفصل بين عنوان " المرجعية " و " القيادة " في كتبهم و دراساتهم و محاضراتهم و هم من المعجبين جدا بالسيد محمد صادق والد مقتدى و الناقمين لأسباب مختلفة على عموم المرجعيات الشيعية سواء في العراق أو خارجه الأمر الذي دفع البعض للتشكيك في نوايا هؤلاء و تساءلوا عن الجهات التي يعملون لصالحها لما تجلبه أطروحاتهم و آرائهم من ضرر فادح على الشيعة و المجتمع الشيعي .
و منذ البداية كان واضحا للعيان أن مقتدى لا يتوفر على أدنى شروط القيادة و ليست له أهلية التصدي لشأن خطير و اعتلائه لمركز قائد لمجموعة كبيرة من الشباب ، فكانت قراراته طيلة السنوات الماضية قلقلة و متضاربة و غير ثابتة ، و افتقد إلى حصافة التعامل مع القضايا المختلفة و بدا عاجزا عن استقراء آفاق الشأن السياسي و نتيجة لذلك أصبح الصدريون مصدرا لزعزعة الأوضاع و احتقانها حد أن بلغت حد الصدامات و المواجهات المسلحة سواء مع القوات الأمنية العراقية أو المتعددة الجنسيات تحت عنوان عابث هو مقاومة المحتل مع أن مقتدى كان الوحيد من الشخصيات الشيعية في النجف أو في الأحزاب المعروفة الذي رحب بشكل أو آخر بدخول القوات الأمريكية علانية و اعتبارهم ضيوفا ، و نتيجة لهذا الترحيب اتصل معه الجانب الأمريكي عارضا عليه تبوء منصب كبير في الحكومة العراقية التي كان من المزمع تشكيلها وهذا ما ورد على لسان مقتدى في إحدى لقاءاته المسجلة و قال أنه رفضه و اعتبر رفضه استمرارا لما كان قد فعله السيد الشهيد الأول حيث تساءل مقتدى : ألم يكن السيد محمد باقر قادرا على أن يكون وزيرا ..؟
إن أكبر ما يسجل على مقتدى الصدر ومن حيث كونه رجل يرتدي العمامة انه أسهم بجملة قرارات و تصرفات خاطئة أدت إلى إراقة دماء العديد من الأبرياء العراقيين الأمر الذي ساهم في تشويه صورة الإسلاميين و أتاح للآخرين فرصة التشهير و التشنيع عليهم و كان من اكبر أخطائه هو تشكيل مليشيات مسلحة أدت إلى اضطراب الأوضاع الأمنية في مختلف مناطق البلد . و هنا نتساءل ، بعد سماعنا بالأخبار التي نقلت عن مصادر مقربة من الصدر حول نيته في الاعتزال التام للسياسة و الانكفاء على الدرس و طلب العلم و تهذيب النفس و التكامل ليتسنى بعد ذلك طرح نفسه مصلحا اجتماعيا و قائدا سياسيا و مرجعا دينيا ، لماذا لم يكن هذا الطلب للعلم و تهذيب النفس و السعي في " التكامل " منذ البداية و قبل أن يسيّر ألافا من الشباب بجهل و عدم دراية وراءه ، و يتورط بمخالفات و آثام تقصم الظهر و ينساق هو و أتباعه في التسافل نحو همجية و عدوانية و شراسة هي اقرب إلى صفات الضواري المتوحشة لا البشر الأسوياء ؟ و على أية حال فثمة سؤال ملح حول ماذا يمكن أن يصبح عليه الواقع الصدري بعد اعتزال قائده تماما ؟ نرجح أن ما يعرف بالتيار الصدري سوف يتعرض إلى انهيار حتمي بعد انشقاقات واسعة ستعتريه و أن الصراع على مراكز القيادة له ستشتد و تأخذ طابعا شرسا و سيتم اللجوء إلى العنف و التصفية الداخلية في سبيل ذلك . و لهذا فنحن نطرح سؤالا آخر هو : هل بعد حصول مقتدى على درجة الاجتهاد بعد عدة سنوات و بلوغه مراقي في تهذيبه لنفسه و تكامله الروحي و المعنوي الذي نشك في أنه سيحصل ، نقول هل بعد حصوله على ذلك سيكون بعد عودته ثمة ما يعرف بالتيار الصدري أم انه سيبحث عن تشكيل تيار جديد قد يكون ألد أعدائه هو التيار القديم ؟
https://telegram.me/buratha