ربيع بركات
“المعارضة القديمة”، التي يفترض أنها معتدلة، تم تهميشها. خطتها منذ العام 2011 تمحورت حول الدفع باتجاه تدخل عسكري غربي شامل على غرار ذاك الذي حصل في ليبيا في العام 2011. وعندما لم يحصل ذلك، لم تقدم أي استراتيجية بديلة”. (باتريك كوكبورن ـ الإندبندنت)
يكرر كوكبورن، أحد أبرز الصحافيين الغربيين المختصين بشؤون الشرق الأوسط، ما سبق أن سُرب حول تقديرات جهات استخبارية غربية حيال أوضاع الميدان السوري. من حيث المبدأ، لم يعد ثمة حاجة حقيقية للإحالة إلى تقارير كتلك. إذ يمكن الزعم أن التطورات التي عصفت بالجبهات السورية على مدى الأشهر الماضية، كافية للذهاب أبعد من الحديث عن “تهميش للجيش الحر”. فالأخير انتهى عملياً، أقله بصيغته السابقة وبرنامجه التأسيسي. وما يحصل اليوم لا يعدو كونه إعادة تدوير لوظيفة هذا الجيش، تمهيداً لمرحلة ما زالت ملامحها قيد الإعداد.
وقراءة مآل “الجيش الحر” تستوجب مراجعة محطات ومواقف أظهرت قصور التجربة عن تقييم الواقع والبناء عليه، كما أبرزت المدى الذي كان فيه مصير الجيش معلقاً على مزاج اللاعبين الإقليميين، الذين يثبت، يوماً بعد آخر، أنهم أكبر المؤثرين على مسار الحراك السوري بعدما اتخذ شكلاً مسلحاً. فخيار العسكرة كان، متمَماً بأدوات المال والإعلام والخطاب الديني، وفي ظل ظرف محلي وإقليمي غاية في التعقيد، أكثر ما حرف اتجاه البوصلة التي عبرت عنها تظاهرات الأشهر الأولى في البلاد.
لم يحد خطاب “الجيش الحر”، على مدى أكثر من عامين بعد التأسيس، عن ذاك الذي أراد أن يسوقه داعموه الإقليميون وفق ما كانت تقتضيه مصلحتهم، فكان رموزه أسرى الأوهام التي روجها أولئك اللاعبون في معظم الأحيان، وكان التناقض بين الوقائع والحسابات الورقية يظهر تباعاً كلما سقط رهان أو خابت توقعات. كما كان تغير المعطيات، تحديداً المتعلقة بهوية القوى الفاعلة على الأرض، يفرض تعديلاً في رؤية هؤلاء للحدث. وقد أدى ذلك إلى تحول قراءاتهم عما كانت عليه مطلع الانتفاضة، مع تحلل الخطاب الشعبوي المرافق لها وتراجع قدرته على تفسير المجريات.
ففي العام الأول، برز استبعاد قادة “الحر” التام لاحتمال جذب الصراع المسلح متطرفين من خارج الحدود. فأكد مؤسس «الجيش» رياض الأسعد أن الأمر لا يعدو كونه فبركات من النظام وأن السوريين قادرون على حماية أنفسهم وعلى إسقاط نظامهم وأنهم لا يقبلون دخول أفراد إلى البلاد أو تدخل دول وجماعات في شؤونها (مقابلة مع موقع “أصوات الشرق الأوسط” في كانون الأول 2011)، ثم أخذ يبني على خطاب الخارج وحروبه النفسية والإعلامية ضد النظام، فتوقع انهيار الأخير مع نهاية العام الأول للانتفاضة (مجلة “المجلة” الصادرة في لندن في شباط 2012).
وقد كان الأسعد حريصاً على تفنيد كل المخاوف حيال تضخم ظاهرة “القاعدة” ومشتقاتها بتأكيده أن الأخيرة لا تمتلك قاعدة شعبية وأن “من يتحركون باسمها مساجين سابقون أفرج عنهم النظام خدمة لأهدافه” (“الجزيرة” في حزيران 2012)، ثم كرر الأمر بقوله إن “الشعب السوري لن يقبل أياً ممن يوصفون بالمجاهدين والإرهابيين في الأراضي السورية” (“راديو سوا” أيلول 2012).
غير أن تجاوز الوقائع للخطاب فرض على مؤسس “الجيش الحر” ملاءمة الإثنين بما يقنعه وجزءاً كبيراً من جمهوره على السواء، فعاد عن تشخيصه السابق لواقع المعارضة المسلحة بقوله بعد عامين على انطلاق الحراك، إن “جبهة النصرة” تمثل “الفصيل الصادق” بين القوى المقاتلة (في شريط مسجل في آذار 2013). وقد جاء كلامه بعدما فاض به الكيل من وعود الخارج ومن وصاية ممثلي الانتفاضة المنتدبين في الفنادق. فقرر، بعدما اتُخذ قرار تهميشه ونفذت محاولة اغتياله التي بترت رجليه، أن يفصح عن مواقف ظلت ضامرة إلى حينه، فاتهم المجلس الوطني بـ”ممارسة التشبيح على الثورة” وبقيامه مع الائتلاف السوري بـ”محاولات جادة لتصفيته” (“عكاظ” في أيلول 2013).
إلا أن الرجل كان قد أضحى خارج حسابات الكبار، شأنه شأن رئيس المجلس العسكري في “الجيش الحر” العميد الركن مصطفى الشيخ، بعدما سبقه الأخير في إبداء امتعاضه من الخارج بالقول إن “عدم دعم العالم للمعارضة السورية يعني تحول عناصرها إلى مجموعة من الإرهابيين” (الديلي تلغراف تشرين الثاني 2012).
وقد كان الغرب معنياً بتجديد دماء “الجيش الحر”، حتى يتماشى مع رغبة دول خليجية بتغليب قوى متماثلة معها عقائدياً، من دون أن يفلت زمام الأمر من يديه ويذهب جهده رصيداً في أدراج “القاعدة” وأشباهها. وكان أن انتخب العميد سليم إدريس رئيساً للقيادة العسكرية الموحدة على رأس مجموعة ضمت إسلاميين أبعد عن “القاعدة” وأقرب إلى نهج “الإخوان” المدعومين من قطر و”السلفيين” المتصالحين مع سائر دول الخليج.
ومع تضخم حجم “داعش” و”النصرة” والمجموعات المشابهة، ومع إمساك السعودية دفة الإشراف على المعارضة المسلحة بدلاً من قطر ورغبتها بتحجيم “الإخوان المسلمين” المدعومين من الأخيرة وأنقرة على السواء، إضافة إلى خشيتها من تداعيات تسوية أميركية مع إيران، أخذت تعمل من خارج “الجيش الحر” على جمع قوى تملك وحدها قدرة التأثير عليها من دون سائر الشركاء. وسهُل لها الأمر بغياب قيادات ميدانية بارزة مع استقالة مسؤول المجلس العسكري في حلب عبد الجبار الكعيدي قبل أشهر واغتيال عبد القادر صالح المقرب من “الإخوان” قبل أسابيع. فكان أن رعت إعلان “الجبهة الإسلامية” التي تضم سبع كتائب معارضة أواخر الشهر الفائت، والتي تصف نفسها في ميثاق تأسيسها بـ”تكوين عسكري سياسي اجتماعي إسلامي شامل يهدف إلى إسقاط النظام الأسدي في سوريا إسقاطاً كاملاً وبناء دولة إسلامية تكون السيادة فيها لشرع الله وحده مرجعاً وحاكماً وناظماً لتصرفات الفرد والمجتمع والدولة”.
وبعد مزاحمة “الجيش الحر” بخطاب يغلب عليه التشدد، ظهرت قدرته العملية في أسوأ أحوالها مع اعتقال أمين سر هيئة أركانه عمار الواوي من قبل “داعش” قبل أيام، ومع عجزه عن حماية مخازن سلاحه على الحدود مع تركيا.
بيد أن أكثر ما يؤشر إلى نهاية “الحر”، أقله بصيغته السابقة، هو حجم الإرباك الذي بات يتصف به خطابه وسلوكه اليوميان، حيث صار الهم الأول لقائده سليم إدريس نفي ما نقل عنه حول استعداده للتعاون مع الجيش السوري لمواجهة “القاعدة”، ودحض الأخبار التي تحدثت عن فراره من سوريا… هرباً من الأخيرة.
السفير
29/5/131219
https://telegram.me/buratha