صحيح أن النقاش حول الضربة العسكرية على سوريا غرق في تحليلات تنوعت بين مؤيد ومعارض، إلا أنه لا بد من التساؤل حول هدف الحماسة للتدخل العسكري، بالرغم مما قد ينطوي عليه من مخاطر على الولايات المتحدة تحديداً، وهي التي فشلت في حربها في العراق مثلاً. قد يلجأ الكثيرون إلى حجة التدخل المحدود فقط، ضربة جوية سريعة تطيح الترسانة الكيميائية وقتها، إلا أنه بالنسبة إلى القطاع العسكري، الأمر يتخطى ذلك كثيراً. فتلك الحروب وإن كانت محدودة أو واسعة، فهي تشكل مصدراً أساسياً لها، ليس فقط مالياً، وإنما أيضاً للترويج لسلعتها، إن كانت منتجات الأسلحة، أو استشارات أمنية، عسكرية أو ديبلوماسية.ومن هنا، يتخذ التقرير الآتي، من قضية الضربة العسكرية التي كانت مزمعة على سوريا، مثالاً على مراوغة القطاع العسكري عبر وسائل الإعلام، حيث عمدت تلك الوسائل إلى استقبال الخبراء، من دون الإشارة إلى علاقة هؤلاء، بطريقة أو بأخرى، بالقطاع العسكري، بل اكتفت بالإِشارة إليهم تحت عناوين فضفاضة، من دون الإشارة إلى علاقاتهم بأجهزة لها مصلحة في إعلان الحروب. انهم في الحقيقية متحدثون باسم شركات تستفيد من التدخل الأميركي العسكري في الخارج. عمدت «مبادرة المساءلة العامة» الأميركية، وهي منظمة غير حكومية أميركية تهدف إلى فضح السلطة والفساد في القطاعات التجارية، والمالية والحكومية، إلى دراسة المداخلات الإعلامية حول سوريا خلال شهر واحد جمع آخر أسبوعين من شهر آب الماضي وأول أسبوعين من شهر أيلول، لتصل إلى النقطة المشتركة بين المحللين المدعوين من قبل وسائل الإعلام، وهي ببساطة القطاع العسكري.عودة رجال جورج بوشلا يخفى على أحد أن من مؤيدي الضربة العسكرية وقتها، أنصار الحرب التابعين لإدارة الرئيس السابق جورج بوش. وبحسب دراسة «مبادرة المساءلة العامة»، فإنه على سبيل المثال، عمد مستشار بوش السابق لشؤون الأمن القومي ستيفن هادلي، إلى تأكيد حضوره على الساحة الإعلامية. وقد دافع بشراسة عن الضربة العسكرية على شبكات «سي إن إن»، «إم إس إن بي سي»، «فوكس نيوز»، و«بلومبرغ»، ولم يقدم سوى كخبير مستقل في شؤون الأمن القومي وهو ليس كذلك.كما أنه كتب افتتاحية، انتشر صيتها، في صحيفة «واشنطن بوست» بعنوان: «لإيقاف إيران… على أوباما المضي قدما في الخط الأحمر السوري»، ولكن التوقيع في آخر المقال، لم يحمل سوى «مستشار للأمن القومي» في إدارة بوش، فقط لا غير.حين صعد ستيفن هادلي إلى المنابر الإعلامية، لم يتم إعلام الجمهور بأنه مدير في شركة «رايتون»، مصنع الأسلحة الذي ينتج صواريخ «توماهوك». اللافت ليس منصب هادلي، ولا مصنع الأسلحة بحد ذاته، بل في صواريخ «توماهوك»، التي انتشر صيتها كخيار أساسي للضربة العسكرية ضد سوريا.ويحصل هادلي على 128,500 دولار سنوياً كتعويض من الشركة ولجنة العلاقات العامة فيها، كما أنه يمتلك 11,477 سهماً في «رايتون»، التي ارتفعت قيمة أسهمها قبيل الضربة المزمعة على سوريا إلى 77,65 دولاراً في 23 آب، ما يعني أن حصة هادلي بلغت 891,189 دولاراً.وللتذكير، فإن هادلي شغل منصب مستشار الرئيس السابق جورج بوش لشؤون الأمن القومي. وبين العامين 1989 و1993، عمل كمساعد لوزير الدفاع حينها ديك تشيني. وهو الذي مثل وزارة الدفاع في كل ما يتعلق بمباحثات الحد من الأسلحة، ومن بينها المباحثات الأميركية مع الاتحاد السوفياتي، وروسيا لاحقاً. وفي شباط العام 2013، تمت تسميته مستشاراً لـ«معهد الولايات المتحدة للسلام».وباختصار، فإن لهادلي تجربة طويلة مع الديبلوماسية وشؤون الدفاع، ولذلك من الممكن القول إن الكثير من الأميركيين يثقون بقراءاته التحليلية. وهو الذي وصف إيران في العام 2005، بأنها «الداعم الأول للإرهاب في العالم». وهو أيضاً الذي عارض خطة الانسحاب من العراق في العام 2007، وكان دائماً جزءا من محيط بوش، المبرر للغزو الأميركي للعراق. هادلي ليس وحيداً برغم الحديث المطول عن هادلي، إلا أنه ليس الوحيد، بل تم رصد حوالي 21 آخرين من زملائه يعملون بالطريقة ذاتها. وقد صعد هؤلاء إلى المنابر الإعلامية حوالي 111 مرة، ولم يذكر سوى 13 مرة، وبطريقة غير كاملة، علاقتهم بقطاع التسلح. أما توصيفهم العام فكان إما ديبلوماسيين سابقين، أو عسكريين سابقين، أو محللين مستقلين.جاك كين، على سبيل المثال، جنرال سابق في الجيش الأميركي، ومن بين أعماله الاستشارية المختلفة في مجموعة من شركات الأمن والسلاح، يبدو عمله كمستشار رئيسي في شركة «بلاك ووتر» منذ العام 2012، الأبرز. فالشركة الشهيرة عملت في أفغانستان منذ العام 2001، ومن ثم في العراق بعد غزو العام 2003. وبالطبع، لم يكن كين سوى مدافع شرس عن التدخل العسكري في سوريا في مداخلاته الـ16 على القنوات التلفزيونية، ومن بينها «بي بي سي»، و«فوكس نيوز». وفي شريط التعريف عنه، لم يذكر سوى علاقته السابقة بالجيش، والحالية مع بعض مراكز الأبحاث.لأنتوني زيني أيضاً قصة مشوقة. فهو الجنرال السابق في المارينز، ولكن لم يكن كغيره من مروجي الحروب، عارض زيني غزو العراق، وعُرف بانتقاده لوزير الدفاع وقتها دونالد رامسفيلد. ولكن مع بداية الأزمة السورية، صعد زيني إلى المنابر الإعلامية، ومن بينها «سي إن إن» و«سي بي إس»، لانتقاد النظام السوري. ولم يذكر أحد منصبه الإداري في شركة «أنظمة بي أي إي»، المصدر الثالث للأسلحة والخدمات العسكرية حول العالم.ولعدم الدخول في تفاصيل «المحللين العسكريين» جميعهم، نذكر منهم أيضاً النائب السابق لرئيس هيئة الأركان المشتركة جايمس كارترايت (يعمل في رايتون، وحجته في الدفاع عن الضربة العسكرية هي مصداقية الولايات المتحدة ورسالة تهديد إلى إيران)، ونائب وزير الخارجية للعلاقات العامة السابق نيكولا برنز (مستشار مجموعة كوهين لمؤسسها وزير الدفاع السابق وليام كوهين).معاهد أبحاث… واستشاريونالدور نفسه، قامت به معاهد الأبحاث الأميركية. ففي الفترة الممتدة بين السابع من آب والسادس من أيلول، ذكر عدد من مراكز الأبحاث عبر وسائل الإعلام حوالي 44 مرة، ومن الأكثر أهمية كل من معهد «بروكينغز»، و«معهد الدراسات الإستراتيجية والدولية»، و«معهد دراسات الحرب».«بروكينغز» الأشهر بين معاهد الأبحاث خلال «الفترة السورية»، وقد ذكر في الفترة المذكورة 31 مرة. صحيح أنه ينظر إلى المعهد الشهير على اعتبار أنه مؤسسة مستقلة، إلا أن القطاع العسكري يبقى أحد مموليه. وهو يحصل على ما بين مليون و 2.5 مليون دولار من «بوز آلن هاميلتون» (معهد استشاري في قطاع الدفاع، خصوصاً للحكومة الأميركية)، وبين 500 ألف ومليون دولار من شركة «كوالكوم» (شركة منتجات وخدمات في مجال الاتصالات)، وبين 50 ألفا ومئة ألف دولار من شركة «بوينغ» و«جنرال دايناميك» (معدات جوية عسكرية وتجارية)، بالإضافة إلى كل من «لوكهيد مارتن» (دفاع)، و«نوررن غرومان» (أمن)، و«مالانتير تكنولوجيز» (من بين مؤسساتها معهد دراسة الحرب الداعم للتدخلات الأميركية العسكرية في الخارج).نشر المعهد لمحللين دافعوا عن الضربة الأميركية ضد سوريا، ومن بينهم مايكل أوهانلن، الذي قارن الوضع بموافقة الرئيس الأسبق بيل كيلنتون على ضرب العراق في العام 1998، كما كنيث بولاك الذي قارن التدخل في سوريا بالتدخل الأميركي في كوسوفو في التسعينيات.أما «معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية» فقد ذكر 33 مرة في الملف السوري، ومن بين أعضائه ومستشاريه من هو على علاقة بالقطاع العسكري، فعلى سبيل المثال مارغريت سيدني آشوورث التي تعمل أيضاً كنائبة رئيس في «نورثروب غرومان» (أمن)، بالإضافة إلى توماس كوليغان وهو أيضاً نائب رئيس في «رايتون». أما مدير المعهد، فهو يحتل منصباً إدارياً في «سي إي آي سي» (الشركة الدولية للتطبيقات العلمية) التي تقدم حلولاً تقنية لقطاع الدفاع. لم تخل المقالات الـ33، التي ذكر فيها المعهد، من ترويج للضربة العسكرية لسوريا، ومن بين الباحثين من لجأ إلى حجة المصداقية الأميركية للدفاع عن التدخل الأميركي.«معهد دراسات الحرب» ذكر 22 مرة في مقالات حول الضربة العسكرية. ومن دون أي مفاجآت، فإن معهد الحرب هذا على علاقة بالقطاع العسكري من «رايتون» إلى «بلانتير» و«جنرال دايناميكس»، و«سي إي آي سي»، وغيرها من شركات التسلح والأمن.من الممكن القول إن المؤسسات الإعلامية لا يجب أن تكون حيادية، بل أيضاً من الطبيعي أن تقوم بدور ترويجي أحياناً لفكرة معينة، ولكن في هذه الحالة نتحدث عن الولايات المتحدة، أكبر قوة عسكرية في العالم، وهي تحضر نفسها ومواطنيها لشن ضربة عسكرية ضد دولة أخرى. هي ضربة كان من شأنها أن تغير الوضع الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط كاملة. لذلك في هذا الوضع بالذات، يكون لتغييب الحقيقة أو اللعب فيها أثر بالغ الأهمية على مستقبل شعوب بكاملها
https://telegram.me/buratha