بعد منتصف الليل وقبل أكثر من (31 عاما) توفي في أحد أحياء بغداد من جهة الشرق شخص لم يجد من يدفنه، غير شاب متبرع لم يلمس جثة من قبل، ليتطوع بتغسيل الميت وتجهيزه للدفن، جمال السوداني، تغيرت حياته بعد هذه الحادثة، وأصبح محترفا بدفن الجثث مجهولة الهوية، او من ليس لهم احد يتولى دفنهم، بالاضافة الى تصوير جثثهم وتوثيق حالتها، ناذرا نفسه كما يقول لهذا "العمل الإنساني البحت والمجرد من الماديات والبعيد عن الدين".
الدفان: عملي ليس له علاقة بالدين والكثير ممن يدعون التدين يستبيحون جميع الحرمات
ويقول السوداني في حديث إلى (المدى برس)، "بعد أن تطوعت لتغسيل الشاب الميت تغيرت حياتي، إذ لامست هذه الحادثة وجداني ودقت لدي ناقوس الإنسانية فقررت أن أنذر نفسي لهذا العمل الإنساني".
وعلى الرغم من أن "دفن الموتى عمل قد يكون مخيفا للبعض"، كما يؤكد السوداني، إلا أنه يبين "لقد روضت نفسي منذ نعومة أظفاري على احترام الإنسان والنفس البشرية، وبات التفاعل الوجداني مع الأخرين جزءا لا يتجزأ من حياتي".
ويؤكد السوداني أن "هذا الشعور ليس له علاقة بالدين والتدين، لأن الكثير ممن يدعي التدين نراه يستبيح جميع الحرمات، وأنا مؤمن تمام الإيمان بأن الدين المعاملة وليس الدين الصلاة والصيام والحج فقط، فكل إنسان لو يعكس الهموم والمصائب على نفسه لسارت الحياة على خير ما يرام".
ويضيف السوداني أن "المشاركة في مصائب وهموم الناس عمل في غاية الصعوبة، فقد عانيت من الإجهاد والمرض في القلب وجلطات متكررة بسبب هذا العمل".
ويتابع السوداني "من الممكن أن أجامل في كل شيء إلا الظلم والدم والأحاديث السماوية والقدسية واضحة في هذا الموضوع، إذ لا تجيز استباحة الدم البريء لأي سبب من الأسباب".
ويوضح السوداني "لقد امتهنت هذا العمل، في نهاية عام 1983 عندما توفي في احد أحياء بغداد من جهة الشرق شخص بعد منتصف الليل، لذا تطوعت لتغسيله وتجهيزه".
ويتابع السوداني "ثم فاتحت بعض الشباب بالفكرة وأخذنا على عاتقنا تغسيل وتجهيز ودفن الفقراء، خاصة وان مراسم الدفن في العراق مكلفة، فضلا عن الطريق الطويل لإيصال جثث البعض إلى مقبرة النجف"، لافتا "ولقد نجحت مجموعتنا الخيرة، ليتطور العمل بعد عدة سنوات حتى وصل الموضوع إلى كبار السن المتعففين الموضوعين في دور الرعايا والعجزة والأشخاص اللذين يمسهم الضر في عقولهم، وكنا ندفنهم في محافظة النجف".
ويقول السوداني أن "أحد المسؤولين في ديوان عاصمة بغداد في زمن نظام صدام حسين، ابلغه عن نية الديوان بالتعامل معه لدفن الأشخاص اللذين ينفذ بهم حكم الإعدام، لكي لا يعرف أهل المعدومين مكان أولادهم".
ويشير السوداني إلى أنه "كان يقوم بدفن الجثث مجهولة الهوية، وكان يكون علاقات مع الموظفين في ثلاجات الموتى ومع ضباط كانوا يرفضون سياسة النظام السابق، إذ قام بدفن اللذين يعدمون بسبب انتمائهم السياسي المختلف عن الحكومة آنذاك".
وينوه السوداني إلى أنه "لا يميز بين طائفة وأخرى أو بين مكون وأخر، حتى أنني في احدى المرات دفنت أحد الأشخاص المسيحيين الذي كان في دار العجزة والمسنين بدون عائلة، إذ بادرت بغسله وتجهيزه ودفنه على الطريقة الإسلامية كوني لا اعرف التقاليد المسيحية".
الدفان: كنت أصور من أدفنهم ليتعرف أهلهم عليهم
ويلفت السوداني إلى أن "أغلب من دفنهم كان يصورهم ويرقمهم، أملا في أن يأتي أحد من ذويهم للتعرف عليهم، وخاصة فترة مابعد التسعينيات"، مشيرا إلى أن "النظام السابق سجنه لمدة اربع سنوات بتهم سياسية بعد أن علموا بالموضوع".
ويتابع السوداني أن "العشرات من ذوي هؤلاء المعدومين السياسيين يأتون له للاستفسار عن أولادهم"، لافتا إلى أنه "مارس عمله هذا حتى بعد دخول القوات الأجنبية، والتي بدأت بالقتل من دون سبب، وبدأت من جديد بالترتيب مع الطب العدلي لمعرفة جثث اللذين لم يأتي ذووهم لاستلامهم، وكنت أدفن بين (100 إلى 150) جثة مجهولة الهوية من اللذين يذهبون ضحية الاعتداءات التي تقوم بها القوات الأمريكية".
وينوه الموسوي إلى أن "الاستخبارات الأمريكية بدأت بنصب كمائن لمنعهم من دفن الضحايا، واعتقلوا ثلاثة من المجموعة، ثم طلبنا من الطب العدلي وضع كل الجثث في اكياس سود حتى لا يتميز بين اللذين يجلبهم الأمريكان وبين الباقين".
ويتابع السوداني أن "الاعتداء على مرقد العسكريين في سامراء أحدث شرخا كبيرا، إذ كنا ندفن في الشهر (2000) جثة مجهولة الهوية جراء الانفجارات الرهيبة والقتل المتعمد"، مؤكدا أنه ومجموعته ما يزالون يمارسون عملهم خدمة للإنسانية.
مساعد الدفان: أكفن الموتى بحثا عن جثة أبني
من جانبه يقول أبو طارق، وهو أحد مساعدي السوداني (52 عاما)، "عملت مع السوداني منذ العام 2006، إذ انضممت له بعد أن فقدت أحد أبنائي، من دون أن أعرف السبب ولا أن أرى جثة له".
ويوضح أبو طارق "جئت للسوداني لكي اسأل عن ولدي ولأرى الصور التي يلتقطها للجثث التي يقوم بدفنها، ومع أني لم أعثر على جثة ولدي، إلا أنني عرضت العمل معه، والأن عندما احمل وأغسل وأكفن شاب مغدور أتذكر لهفة الآباء والأمهات على أبنائهم".
https://telegram.me/buratha