يسخر سياسيّ عربيّ مخضرم وذو خبرة واسعة في العلاقات الإقليمية والدولية، من بعض التحليلات التي يروّج لها متضرّرون من الاتفاق الإيراني ـ الدولي، وتتحدَّث عن وجود «ملاحق سرّية» لهذا الاتّفاق تتضمّن تنازلات إيرانيّة في الملفّ السوري وملفّ «حزب الله» وفي القضية الفلسطينية.
ويقول هذا السياسي المخضرم إنّ مشكلة هذه التحليلات لا تنبع فقط من تفكير رغبويّ يحاول قراءة الوقائع بعيون أمانيه فقط، بل تنبع ايضاً من انّه لا يعرف ماذا يجري فعلاً في العالم، كذلك لا يدرك أبسط المرتكزات التي تقوم عليها السياسة الايرانية.
ويضيف: “إنّ اصحاب هذه التحليلات الهزيلة لا يستطيعون قبول فكرة أنّ الولايات المتحدة الاميركية اليوم ليست نفسها التي خاضت حروباً وقادت احتلالات في افغانستان والعراق قبل عشرة أعوام ونيّف، وأنّ الادارة الاميركية مضطرّة لأسباب اقتصادية واستراتيجية الى إجراء مراجعات لسياساتها في الداخل والخارج، وتقديم تنازلات في هذا الملف أو ذاك، في إطار استراتيجية تخفيف الخسائر بعدما بدا متعذّراً عليها تحقيق انتصارات أو كسب أرباح.
ويذكّر هذا السياسي المخضرم بتقرير لجنة بايكر ـ هاملتون عام 2006، والذي خرج بخلاصات وتوصيات تدعو الادارة الاميركية الى اعتماد الحوار في علاقاتها مع دول العالم، ولا سيّما منها ايران وحتى سوريا، كذلك تدعو الى البحث عن شراكات وشركاء دوليّين تتعاون معهم لتقود العالم، وبحسب هذه التوصيات، يمكن واشنطن ان تقود ولكنّها لا تستطيع ان تهيمن بعد الآن.
وقد اعتُبِر هذا التقرير ردّاً على التقرير الشهير الذي قدّمه المحافظون الجدُد للرئيس الاميركي الاسبق بيل كلينتون في أواسط التسعينات ولكنّه لم يتبنّهُ، فجيء بجورج بوش الإبن ليتبنّاه بحذافيره. وقد رأى هؤلاء المحافظون انّ التحوّلات في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي باتت تسمح لواشنطن أن تصبح القوّة المهيمنة الوحيدة على العالم، وأن تخوض حروباً ضد دول او منظمات “مارقة” هنا أو هناك.
وحين جاء الرئيس باراك أوباما الى “البيت الابيض” كان إبناً شرعيّاً لتقرير بايكر ـ هاملتون، ولكنّ انصار التقرير الآخر الذي حمل عنوان: “القرن الحادي والعشرين: القرن الاميركي” ظلّوا يعترضون على سياسات اوباما، خصوصاً في ولايته الاولى مستندين الى نفوذ اسرائيلي كبير في مراكز المال ووسائل الاعلام التي يمتلك الاسرائيليون جزءاً كبيراً منها.
ويضيف السياسي المخضرم أنّ اوباما في ولايته الثانية بات اكثر تحرّراً من هذه الضغوط وباتت بلاده أكثر ضعفاً، وساعده موقف رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ضده في الانتخابات الرئاسية، حيث أيّد الأخير للمرّة الاولى مرشّحاً رئاسياً لم يحالفه الحظ بالفوز.
وقد مورست الضغوط على اوباما لجرّه الى المستنقع السوري بعدما جرّ المحافظون الجدد سلفه بوش الى المستنقعين العراقي والافغاني، وبلغت هذه الضغوط ذروتها في ايلول الماضي عشية التهديد بشنّ حرب على سوريا، حرب لم يكن اوباما، على ما يبدو، مقتنعاً بنجاعتها، لكنّه ساير الضغوط وسار معها الى لحظة اكتشف فيها الاميركيون أنّ ما سيجري شرقَ المتوسط لن يكون ضربة محدودة حسبما وعد اوباما، بل بداية حرب اقليمية وعالمية لا يريدونها أبداً.
فما يجمع غالبية الاميركيين اليوم هو رفضهم انزلاق بلادهم الى أيّ حرب جديدة، وهو إجماع استخدمته إدارة اوباما في موازاة إعتراض بعض اعضاء الكونغرس على الاتفاق مع إيران قائلة لهم: “إمّا الاتفاق، وإمّا الحرب”. فاضطرّ معارضو الاتفاق الى خفض أصواتهم ونجحت جنيف في إطلاق أوّل تفاهم إيرانيّ ـ غربي بعد 30 عاماً من الجفاء.
وفي ضوء ما تقدّم، يسأل هذا السياسي المخضرم: “هل يمكن ان يكون الإيرانيون هم الذين تنازلوا في ملفّات المنطقة؟ أم أنّ الآخرين هم الذين فعلوا ذلك؟” ويقول: “إنّ ايران تدرك انّ من أسباب صمودها هو موقفها في الملفّات الآنفة الذكر، فقد حاول الاميركيون تطويقها من خلال العراق، فجاءت المقاومة العراقية لتشاغلهم وتصرف انتباههم عمّا يفعله الايرانيون في برنامجهم النووي.
وحاول الاميركيون توجيه ضربة قاسية لإيران عبر حرب 2006 في لبنان وحرب 2008 و2012 في غزّة، لكنّ صمود المقاومة اللبنانية والفلسطينية أضعف النفوذ الاسرائيلي وأظهر أنّ سياسات اسرائيل باتت عبئاً استراتيجياً على المصالح الاستراتيجية الاميركية، حسبما قال يوماً المدير السابق للإستخبارات المركزية الاميركية الجنرال ديفيد بترايوس في شهادته أمام الكونغرس الاميركي”.
ولا يستطيع أحد، حسب السياسي المخضرم نفسه، “تجاهل دور صمود النظام السوري على مدى عامين ونصف عام في وجه كلّ القوى المعادية في دعم الصمود الايراني، تماماً مثلما كان الدعم الايراني أساسياً في صمود سوريا”.
ويسأل هذا السياسي: “مَن يمتلك أوراقاً بهذه القوّة، هل يفرّط بها بهذه السهولة، أم أنّه سيستخدم هذا الاتفاق لتقوية موقعه في هذه الجبهات كلّها؟”. ويختم: “من ما زال غير مقتنع بهذه التحوّلات عليه ان يسأل وزير خارجية تركيا أحمد داود اوغلو المتنقل بين بغداد وطهران عن أسباب مراجعات تركيا لسياساتها في المنطقة”.
36/5/131128
https://telegram.me/buratha