نزيهة صالح* كاتبة من لنان
لم يكن الاتفاق بين الجمهورية الاسلامية الايرانية والدول الست حول البرنامج النووي الايراني وليد لحظته، بل هو نتيجة لقاءات عديدة كانت تجري منذ اكثر من عشر سنوات. ومؤخراً كانت اللقاءات تدور وراء الكواليس منذ أكثر من عام وجها لوجه ما بين المفاوض الاميركي والمفاوض الإيراني. وذكرت وكالة "الاسوشيتد برس" ان الرئيس الاميركي باراك اوباما كان قد أوعز ان يبقى الأمر سراً حتى عن اقرب المقربين في البيت الابيض. المفاوضان يعرفان ان حقيقة الاتفاق هي ايرانية ـ اميركية بمباركة روسية، وما وجود الأوروبي الا لملأ الصورة التذكارية بعد الإعلان عن الاتفاق. فما الذي قرب وجهات النظر الأميركية ـ الايرانية بعد عداء بدأ منذ انتصار ثورة الامام الخميني عام 1979 وسقوط شاه ايران حليف اميركا الأول في منطقة الشرق الاوسط؟
في الواقع ليست وجهات النظر هي التي تقاربت ما بين الولايات المتحدة الاميركية والجمهورية الاسلامية في إيران، بل إن هناك طرفا وهو ايران بنى مدماكاً واحاطه بكل ما يملك من حماية وحرص وإصرار على سلامة هذا المدماك، والطرف الآخر وهو الولايات المتحدة الاميركية عمل بمصالحه وحاول بكل طاقاته أن يدمر هذا المدماك باستخدامه كافة انواع الوسائل المتاحة وغير المتاحة لتدميره، حتى أنه ابتز الجيران واستخدمهم كادوات لضرب مدماك الطرف الآخر ان من خلال توجيه "اسرائيل" ودعمها في تهديد ايران أو في شن عدوان على كل من له علاقة بايران في المنطقة، وأيضا من خلال احتضانه ودعمه لمشاريع الفتنة الطائفية التي اججت المنطقة ولا زالت.
تعودت الولايات المتحدة الاميركية الانفراد بالسيطرة على العالم بعد الحربين العالميتين وعلى قرارات الأمم المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي من دون حسيب او رقيب إلى حين وقف في وجهها الامام الخميني بعد انتصار الثورة الإسلامية في ايران في ثمانينيات القرن الماضي ونعتها بالشيطان الاكبر وأعلن عن تحرر الشعب الإيراني منها ووعد بتقديم العون لمستضعفي العالم، في الوقت الذي كانت كافة دول المنطقة تأتمر بأمرها. ومنذ ذلك الحين بدأ المسار التطوري والتنموي الذي رسمه الإمام الخميني يسير على كافة الصعد في ايران.
بنت ايران برنامجها النووي السلمي منذ عشر سنوات وأعلنت للعالم أنها ستستخدم هذا البرنامج للأغراض السلميّة مثل الكهرباء والبحث العلمي ولن تبخل بتجربتها على الدول الأخرى خصوصاً المستضعفة، ولم تلق آذانا صاغية لأن الولايات المتحدة الاميركية لم تصدقها وحاربتها طيلة السنوات الماضية بالسلاح والسياسة والإعلام والدبلوماسية وحتى بالحصار الاقتصادي المتضمن لقمة عيش المواطنين الإيرانيين وصحتهم وأدويتهم وسلامة طيرانهم، وأعطت المجال لاعداء ايران وخاصة "اسرائيل" للتطاول على ايران وتهديدها كل يوم بشن هجوم على منشآتها. فما الذي حصل حتى تغيرت الأحوال؟ ومن الذي تقدم باتجاه الآخر، ايران ام الولايات المتحدة الاميركية؟
هناك عوامل عديدة قد أثرت في جعل الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الاميركية يستبدل استراتيجياته العدائية تجاه ايران ويقدم نفسه بحلة جديدة، وهذه العوامل هي :
1ـ الصمود الايراني بوجه الغرب لأكثر من ثلاثين عاما وتحمله كافة انواع العقوبات من دون ان يصرخ
2ـ بناء القدرة العسكرية الذاتية على الرغم من الحصار
3ـ القدرة على تحويل الحصار الاقتصادي الى التنمية المحلية في الزراعة والصناعة والوصول الى الاكتفاء الذاتي
4ـ التركيز على التطور والبحث العلمي في الجامعات ومراكز الدراسات
5ـ بناء القدرة النووية وتطويرها ذاتيا من دون حاجة الى الخارج
6ـ دعم ايران لحركات التحرر والمقاومة في العالم على الرغم من الحصار والعقوبات
7ـ الوضع الاقتصادي العالمي وخاصة الاميركي المثقل بالديون، وعدم تحمله حروبا جديدة
8ـ رفض الرئيس اوباما الحامل لجائزة نوبل للسلام شن أي ضربة عسكرية اسرائيلية على إيران وعدم رغبته في ان تخوض الولايات المتحدة الاميركية حربا في عهده كي يبقى رئيس سلام
9ـ فشل تجربة المدرسة العقيدية الوهابية المدعومة من الغرب في إفشال المدرسة العقيدية الاسلامية الشيعية المتمثلة في ايران والعراق ولبنان
10ـ فشل "الاسلام الاخواني" في قيادة العالم الاسلامي كنموذج عالمي
11ـ بحث الولايات المتحدة عن بديل اسلامي قوي في المنطقة
12ـ اثبات إيران لقوتها وثباتها على موقفها ومبادئها وهو ما الزم الولايات المتحدة التقرب منها كونها لا تحاور الا القوي
ما ذكرناه يدحض ما يحاول البعض ان يقدمه على اساس ان ايران قد دفعت ثمنا بالمقابل أو أنها قد تخلت عن حلفائها في المنطقة وخاصة دعمها للمقاومة في لبنان وفلسطين وسوريا. لا بل على العكس فإن هذا الاتفاق سيعطيها قوة أكبر للاستمرار على نهجها وخاصة وأن الامام الخامئي قد بارك هذا الاتفاق ووصفه بالخطوة الذكية.
اما النتائج التي سوف تترتب على هذا الاتفاق فسوف تكون رهنا بفترة الستة اشهر من التطبيق المشروط لإتمام الاتفاقية، ولا خوف على ايران في انجاح هذه المرحلة، فالذي نجح في ارغام الغرب على الاعتراف بحقه بالطاقة الذرية بعد صبر عشر سنوات لن يعجز عن انجاح فترة مرحلية مدتها ستة أشهر.
الا ان هناك نتائج سلبية ستقع على بعض الدول المحيطة لإيران في الخليج خاصة وان المملكة السعودية قد أعلنت ان النوم سيجافيها من الآن وصاعداً، وهذا ما سوف يدفعها لبذل أقصى جهد لإفشال فترة الستة أشهر الاولى من الاتفاق، واذا فشلت فقد تقوم بالاعلان عن شراء مفاعل نووي جاهز من باكستان كما تقول بعض المعلومات التي تؤكد أن المملكة السعودية لديها ما يكفي من قواعد عسكرية نووية داخل باكستان تمولها بالكامل لمواجهة ايران في الوقت المناسب، كون المملكة السعودية تعتمد على مالها في شراء النووي وليس عبر عقول شبابها وعلمائها كما هو الحال في ايران.
انتزاع حق ايران بالطاقة الذرية من خلال دبلوماسيتها سوف يقدم للعالم منهجا جديدا في علم الدبلوماسية، وهذا ما لن تتفهمه الدول المتضررة مثل "اسرائيل" القائمة اساسا على الاعتداء والمملكة السعودية التي نادت على العجل لعقد قمة تجمعها مع قطر والكويت والامارات لتدارك ما حصل بعد أن تخلى عنها حليفها الاميركي، وكون هذه الدول لا يمكن ان تقوم لها قائمة بدون الحماية الاميركية ولا طاقة لها أن تخوض تجربة كالتجربة الايرانية في الصمود حفاظا على المبادئ. من هنا فإن مستقبل المنطقة سوف يبدأ من الآن بكتابة تاريخه لأن الاتفاق سوف ينجح بالجهد الايراني وسينسحب هذا النجاح على المناطق الساخنة مثل لبنان وسوريا والعراق، وسيكون الحل السوري لصالح خط المقاومة والممانعة أقرب مما يتوقعه امراء وملوك المنطقة وكذلك "اسرائيل".
30/5/131126
https://telegram.me/buratha