صفحة جديدة من العلاقات بين بغداد وانقرة بدأت ترتسم ملامحها في ظل لغة الحوار والتهدئة التي تخيم على المنطقة بشكل عام. التقارب العراقي التركي الذي ترى فيه العديد من الجهات مقدمة لصوغ أنقرة سياسة جديدة لها في المنطقة، يأتي بعد طلاق سياسي استمر لاكثر من عام ونصف جراء خلافات في مقاربة العديد من الملفات والقضايا.
هذه الملفات يأتي في مقدمها استضافة انقرة لنائب الرئيس العراقي المطلوب للقضاء في بغداد طارق الهاشمي، والهجوم الكلامي لرئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان على نظيره العراقي نوري المالكي متهما إياه بالطائفية.
وشكلت الزيارة التي قام بها احمد داوود اوغلو الى اقليم كردستان العراق دون المرور بالحكومة المركزية في بغداد - وفقا للاعراف الدبلوماسية التي تحكم العلاقات بين البلدين- حجر عثرة آخر على طريق تحسين العلاقات بين البلدين، علما ان زيارة اوغلو جاءت بعد تحسن في العلاقات بين اقليم كردستان وبغداد، وهو ما يقلق انقرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
أما سوريا الجارة الاقرب للبلدين فكانت نقطة الخلاف الجوهرية في هذه العلاقة، بعد رهان انقرة على مدى اكثر من عامين على اسقاط النظام السوري وتوسيع نفوذها في المنطقة.
الكاتب والمحلل السياسي عباس الموسوي اشار لموقع المنار الى ان الاستدارة التركية اليوم، تأتي بعد الشعور بالعجز عن اسقاط النظام في سوريا، وفشل جميع المخططات التي وضعتها انقرة ضد سوريا، فكان لا بد من اعادت ترميم الاوضاع السياسيّة خشية انتهاء الدور التركي نهائيا في المنطقة، بعد الفشل في الدخول الى الاتحاد الاوروبي.
جنيف وضِع على السكة "لماذا المكابرة؟"
النفوذ الذي كانت انقرة تحلم بفرضه في المنطقة بعد ازاحة النظام القائم في سوريا، بدأت حكومة العدالة والتنمية تدرك انها لن تتمكن من الحصول عليه. واضافة الى الملف السوري سُجلت اخفاقات في اكثر من ساحة، لا سيما في مصر بعد عزل الرئيس محمد مرسي وفرض حظر على نشاطات جماعة الاخوان المسلمين، وتراجع نفوذ الترويكا الحاكمة في تونس على وقع ارتفاع اصوات المعارضين لحركة النهضة، وغياب اي شكل من اشكال قيام الدولة في ليبيا، فيما جاءت الاستدارة الامريكية الاوروبية نحو الحل السياسي في سوريا عبر مؤتمر جنيف لتشكل ضربة قاصمة لطموحات تركيا بتبوء مركز قيادة في الشرق الاوسط يُعيد أمجاد السلطنة العثمانية.
تنامي الحركات المتطرفة بدأ يقلق سياسة العدالة والتمنية
القلق التركي عززه تنامي قوّة الحركات المتطرفة على حدودها، لا سيما اثر المعارك الاخيرة بين ما يسمى الدولة الاسلامية في العراق والشام "داعش" ومسلحي جبهة النصرة والجيش السوري الحر. هذا القلق ظهر جليا في تصريحات الرئيس عبد الله غول في اكثر من مناسبة، فأنقره تخشى من تمدد هذه الحركات من العراق الى سوريا ومنها الى الداخل التركي. ويبدو أن تركيا قرأت جيدا زيارة رئيس الحكومة العراقي نوري المالكي الى واشنطن، وكلامه عن ضرورة اقامة حواجز لوقف تدفق المسلحين الى سوريا.
مصادر متابعة لهذا الملف أكدت أن انقرة تدرك مدى خطورة هذه الحركات المتطرفة على حزب العدالة والتنمية في تركيا اذا ما تمكنت من ترسيخ وجودها وسيطرتها على مساحات كبيرة من الاراضي في سوريا والعراق وتركيا. لذا فان مصادر مقربة من دوائر القرار في أنقرة المحت الى نية الحكومة التركية تقليص حجم الدعم الذي تقدمه للمجموعات المسلحة لتقطعه نهائيا بعد فترة خوفا من أن ينقلب عليها.
ويقول الموسوي ان انقرة تدرك جديا ان هذه الجماعات التي تقدم لها الدعم المادي واللوجستي ستنقلب عليها، خاصة ان قوات حماية الحدود التركية ضبطت عددا من العبوات الكيميائية التي كانت تُهرب الى الداخل التركي عبر الجماعات المسلحة، وهو ما رأت فيه حكومة اردوغان اشارة سلبية كبرى.
جاء تقدم وحدات الحماية للشعب الكردي وسيطرتهم على عدد من المناطق على الحدود التركية، ليزيدَ من قلق أنقرة التي باتت تعرب عن خوفها من شبح الفتنة الطائفية، وتتحدث عن ضرورة ضرب الارهاب في العراق وسوريا كمقدمة لاحلال الامن في الشرق الاوسط بأكمله.
اعادة ترميم ما تبقّى من صورة
بات واضحا لانقرة اليوم أنَ حساباتها على مدى سنتين كانت خاطئة، لذا فانها تسعى لاعادة رسم سياسة جديدة شاملة، تحفظ لتركيا المكاسب السياسية والاقتصادية التي حققتها في السنوات الماضية ومنها 53 اتفاقية اقتصادية وقعتها في العام 2009 مع العراق وحده. وينطبق الامر ذاته على سوريا، ويؤكد الموسوي ان التجار واصحاب رؤوس الاموال في تركيا مارسوا ضغوطا كبيرة على الحكومة التركية لدفعها الى تغيير سياستها وخاصة مع سوريا التي كانت تضخ في السوق التركي اكثر من عشرة مليار دولار سنويا، اضافة الى الاتفاقيات التجارية التي وقُعت بين البلدين وكان جزءا كبيرا منها لمصلحة تركيا اكثر منه لمصلحة التجار السوريين.
اذا فانه بات من الضروري اليوم ان ترجع تركيا خطوة الى الخلف لترى المشهد على حقيقته، وتقف الى جانب جيرانها في ضرب الارهاب الذي لن يوفر أحدا اذا ما اشتد ساعِده أكثر في المنطقة، حتى انه لن يوفر من ساعدَه ودعمه، وتجربة أفغانستان خير دليل.
24/5/131114
https://telegram.me/buratha