حسان ابراهيم
"اسرائيل" مستاءة ومحبطة وفي حالة من الغضب. كل ما قيل وعُمل عليه ضد ايران وبرنامجها النووي، ذهب هباءا. تحذيرات تل ابيب التي لا تنفك تتكرر وتجتر نفسها، من صفقة غربية مع البرنامج النووي الايراني، لم تجد نفعا. وكل ما جرى وصفه كصفقات سيئة من ناحية اسرائيل، لا يمكن ولا يجب الدخول فيه، تحقق بالفعل. المواقف الرافضة بالمطلق "لصفقة المراحل" كما اسماها الاعلام العبري، التي تعد اسوأ الصفقات واكثرها ايلاما وتهديدا لتل ابيب، هي التي يبدو انها تحقق في جنيف.
وسواء توصل المفاوضون في المدينة السويسرية، الان، الى اتفاق، او تأجل ذلك لاسباب تقنية او خلافات على مواضيع وبنود تكتيكية الى مرحلة لاحقة، فان الموقف الاسرائيلي والخشية الاسرائيلية، كانت لافتة، ودالة على منسوب مرتفع من القلق من الآتي. فخروج ايران منتصرة وبلا اضرار من المواجهة النووية مع الغرب، التي عملت عليها اسرائيل جاهدة في الاعوام الماضية، يشكل نكسة، بل وهزيمة مدوية، ستمتد تداعياتها السلبية على الكيان على اكثر من ملف واكثر من ساحة، وهو ما لن تقوى على مواجهته.
وحتى قبل ان يعلن الاتفاق النووي في جنيف، خرج رئيس حكومة تل ابيب، بنيامين نتنياهو، في سلسلة من التصريحات المنددة بالاتفاق العتيد، تصريحات ومواقف كررها واجترها تباعا في الايام الماضية، مؤكدا فيها على الرفض القاطع والتام، لكل ما يجري تداوله من اقتراحات واتفاقات مع ايران، واصفا اي اتفاق معها، بناء على المعلومات الواردة من جنيف، بانه "خطأ تاريخي"، مشيرا الى ان "طنجرة الضغط على ايران، والمتمثلة بنظام العقوبات التي جرى بناؤها طوال سنوات، تنتهي الان، ومن دون ان تدفع ايران اثمانا حقيقية مقابلها "، مشددا على القول بانها "صفقة القرن بالنسبة لايران".
اسرائيل و"طنجرة الضغط" والنووي الايراني
ومع الاحترام الكامل لنائب وزير الخارجية الايراني، عباس عرقجي، والموقف التهكمي الذي اطلقه تعقيبا على تصريحات نتنياهو في مقابلة مع صحيفة الغارديان البريطانية، واشار فيه الى ان "نتنياهو مرجعية في موضوع الاخطاء، كونه ارتكب اخطاء على مدى كل حياته"، الا ان نتنياهو، والغرب والجبهة المضادة والمعادية لايران، قامت بكل ما يمكن ان تقوم به، وبلا اخطاء طوال الاعوام الماضية في مواجهة ايران، الا ان ايران هي التي نجحت في صد الهجمة عليها، وها هي تخرج من الملف النووي، منتصرة.
السؤال المطروح على طاولة البحث هو الآتي: كيف لشركاء اسرائيل في العداء لايران: اميركا والدول الغربية عموما، ان ترضى وتوافق على صفقة نووية مع ايران، بل وتروج لحسناتها وفوائدها وتداعيات الايجابية، فيما تؤكد اسرائيل، والى حدود الهستيريا، ان الصفقة كارثية وخطأ تاريخي ولا يمكن القبول بها اطلاقا؟ سؤال، وأسئلة اخرى، تستأهل التوقف عندها كثيرا.
اولا: النظام وليس النووي.
الخلاف في الموقف ازاء ايران وبرنامجها النووي، بين الكيان الاسرائيلي والدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية، لا يتعلق فقط بطموحات ايران النووية، وكيفية العمل على مواجهتها والحؤول دون ما يقال، عن امتلاك طهران للسلاح النووي او القدرة على امتلاكه. الخلاف يتركز اساسا على تراجع، وبعبارة ادق، استسلام، الغرب امام نظام الجمهورية الاسلامية الايرانية، وادراكهم لحدود القوة الموجودة لديهم، ضمن الظروف والمعطيات القائمة، ازاء النظام تحديدا، وبالتالي حصر المواجهة في الموضوع النووي. اما من جهة اسرائيل، فما زالت، وللمفارقة على حساب الاخرين، تؤمن بان القدرة على اسقاط النظام ما زالت موجودة، وهي ترى ان هذا النظام، هو التهديد الفعلي، وازالته تشكل ازالة للتهديد، اما باقي الملفات العالقة مع الايرانيين، وفي المقدمة الملف النووي، ورغم اهميته الكبرى، فهي تعبير عن التهديد، وليس التهديد بحد ذاته.
الولايات المتحدة والغرب عموما، وصلوا الى حد الاستسلام لضرورة الاقرار بمنعة وقدرة نظام الجمهورية الاسلامية الايرانية على الصمود، وفقدان الخيارات الحقيقة الواقعية، في اسقاطه او دفعه للسقوط. وربطا بحدود القدرة هذه، يأتي الموقف السياسي والعملي، والذي تجري ترجمته حاليا في المفاوضات مع الايرانيين، على برنامجها النووي والحل التسووي المنشود من قبلهم. واذا كان الغرب يركز على سحب ما يقول انها "تنازلات" من طهران في المسألة النووية، الا ان هذا الغرب تراجع عن اصل المطلب الاسرائيلي، الذي كان مطلبا مشتركا حتى الامس القريب: اسقاط النظام في ايران. وهو ما يفسر الاستياء في تل ابيب من المواقف الغربية، حتى ما قبل بدء التفاؤل بامكان التوصل الى اتفاق مع ايران، بل وحتى ما قبل تسلم الرئيس الايراني، حسن روحاني، سدة الرئاسة في طهران.
من هنا يمكن فهم الخلافات في المقاربتين، الغربية والاسرائيلية، ومن هنا نفهم كيف لتل ابيب ان ترفض اي اقتراح حل تسووي، فإسرائيل لا ترضى بوضع عراقيل امام البرنامج النووي، او تجميده، او الحد منه، بل ولا تكتفي بأي تسوية تؤكد على ان ايران ستبقى في مرتبة "دولة عتبة نووية" من دون العمل او الوصول الى القنبلة الاولى، فالخلاف يتصل باصل التهديد، وليس بانعكاساته، وهو النظام الاسلامي في ايران.
ومن هنا، فان المفاوضات مرفوضة اسرائيليا، وتبعا له، وبشكل آكد، اي اتفاق، مهما كان، مرفوض ايضا. وهو ما لا يمكن لحاظه في المقاربة الغربية.
ثانيا: ضرب شروط اسرائيل عرض الحائط
القى رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، كلمة الكيان امام الجمعية العامة للامم المتحدة، مطلع الشهر الماضي، ركز فيه على الشروط المقبولة من قبل اسرائيل، لاي اتفاق قد ينجز مع طهران. طالب نتنياهو الغرب بأن لا يتراجع وأن يكون اكثر حزما، وان يرفض اي اتفاق مرحلي او جزئي او بادرات حسن نية لبناء الثقة، يتخلله تخفيف للعقوبات.. مشيرا الى شروط خمس، هي وحدها الكفيلة بتحقيق المطلوب، وكانت بمعظمها شروطا تعجيزية، وكان يراد منها، كما يبدو واضحا، نسف المفاوضات وإمكانات الحل التسووي:
أ- وقف كل عمليات تخصيب اليورانيوم في المنشآت النووية الايرانية وعلى الارض الايرانية، وبكل درجات التخصيب، وبشكل كامل ومطلق، وبصورة لا يمكن الرجوع عنها، بل ويمكن ايضا التحقق منها.
ب – اخراج كل المواد المخصبة من اليورانيوم، بمستوياته المختلفة، الى خارج الاراضي الايرانية، بدءا من الكميات المخصبة بنسبة 3.5 بالمئة وصولا الى نسبة 20 بالمئة، الامر الذي يعني ان الجهود الايرانية في هذا المجال، وما يمكن ان يسمى بالثمار الوطنية المجمعة خلال فترة العقوبات والصمود امام الهجمة على ايران، تتنازل عنها طهران طوعا، وتخرجها من اراضيها.
ج – إغلاق منشأة فوردو المحصنة بالقرب من مدينة قم، وايضا ايقاف العمل بالمنشأة الجديدة في مدينة اراك التي تعمل بالماء الثقيل. مع تشديد الرقابة على المنشآت الاخرى، للتأكد من انها لا تعمل اساسا.
د – اخراج وتجميد العمل او امكانية العمل، باجهزة الطرد المركزي المتطورة جدا، والتي بدأت انتاجها في عدد من المنشآت النووية الايرانية، وتحديدا في منشأة فوردو. وهي اجهزة قادرة على الوصول سريعا، بحسب ادعاءات اسرائيل، الى صنع القنبلة النووية الايرانية الاولى.
هـ - خلال فترة مفاوضات الغرب مع ايران، يصار الى تشديد وفرض عقوبات جديدة على طهران، مع التلويح الجدي بالخيار العسكري، الامر الذي يكفل استسلام ايران بشكل كامل على طاولة التفاوض.
وقراءة هذه الشروط، تشير بصورة واضحة جدا، الى ان التسوية مع طهران مرفوضة. وهي نتيجة للقبول بالمفاوضات مع الشروط التعجيزية الواردة اعلاه، وتعني الدفع نحو تفجير التفاوض قبل ان يبدأ، وهذا ما كانت اسرائيل تسعى وتريد وتبذل الجهود لتحقيقه.
الا ان المصلحة الاميركية تحديدا، والغربية عموما، تختلف في هذا الاطار عن المصلحة الاسرائيلية، كما جرت الاشارة اليه سابقا، الامر الذي ادى الى ضرب كل الشروط الاسرائيلية عرض الحائط، ومرت شروط نتنياهو التعجيزية، وكأنها لم تكن ولم يعرها احد، عمليا، اي اعتبار. ليس لان الغرب بات يرى في نظام الجمهورية الاسلامية مصلحة له، بل لان بقاء النظام وصموده وفقدان الادوات المناسبة والمتاحة لاسقاطه من الغرب نفسه، وفي ظل تراجع وخسارة المكانة الغربية في المنطقة على حساب النفوذ الايراني فيها، وبعد ان جرب واستخدم كل ما لديه طوال السنوات الماضية من ادوات مواجهة وضغط، ادى الى الحفر في الوعي الغربي ان النظام الاسلامي بات مسلمة في المنطقة، ولا يمكن اجتثاثه. وهو ما دفع ويدفع واشنطن الى حصر اهتمامها، ضمن هذه الظروف وهذه الامكانات، في المسألة النووية تحديدا، بعيدا عن وجود النظام واسقاطه للتعذر. اما لجهة اسرائيل، فلا مجال للتراجع، لان استمرار النظام في الوجود، يعني بالنسبة لها، استمرار التهديد الوجودي في الوجود والإمكان، وهو ما لا يلحظ في الموقف الاميركي، لان الخلاف مع طهران يتركز على المصالح وحدودها واتساعها في المنطقة، ولا يتعلق اطلاقا، بتهديد وجودي.
ثالثا: انهيار نظام العقوبات
ترى تل ابيب، وهو ما عبر عنه نتنياهو بصورة مباشرة وواضحة، ان اي اتفاق يشتمل على تخفيف العقوبات عن ايران، وفي المرحلة الاولى من المفاوضات، حتى وإن كان بصورة جزئية، يمثل ضربة كبيرة جدا، وربما قاصمة، لكل الجهود التي بذلت في السنوات الماضية، وأدت الى انشاء ما يسميه نتنياهو نظام العقوبات الدولي ضد ايران. وموقف تل ابيب يرى انه بمجرد ان يقدم الغرب على تخفيف مستوى العقوبات، فان العقوبات برمتها، ومن ناحية عملية، ستنهار. وبحسب تل ابيب، يحقق تخفيف العقوبات لايران فائدتين اساسيتين، من دون مقابل اساسي تدفعه:
أ – عودة العلاقات مع الشركات الاقتصادية الدولية الكبرى الى طبيعتها السابقة، وليس شركات الدول الست وحسب، بل وجميع البلدان التي كانت تخشى العقوبات الاميركية على شركاتها. ومن شأن ذلك ان يفتح الباب على مصراعيه، لاعادة الحركة التجارية وحركة التصدير والاستيراد، بصورة شبه طبيعية، بل ويكفي رفع الحظر عن احدى طرق التعامل الدولي التجاري، كتداول الذهب المحظور حاليا على ايران، كي تستطيع طهران ان تتفلت من كل العقوبات المتبقية، لانها من خلال ذلك، تصبح قادرة على تحويل كل معاملاتها الخارجية التجارية، ومن بينها القطاع النفطي والغازي، بأثمان من ذهب، ومن ثم تحويله الى ايران. كما بإمكان ايران ايضا ان تتمكن من الوصول الى ارصدتها وودائعها الضخمة بالعملة الصعبة، والبالغة عشرات المليارات من الدولارات، في عدد كبير من الدول، ومن بينها الصين والهند وغيرهما، كان يصعب عليها ان تحولها الى ايران، وذلك فور رفع الحظر عن التعامل بالذهب.
ب – يشكل الرفع الجزئي او المخفف من العقوبات، وربطا بالنقطة الاولى، انقاذا لايران مما تسميه تل ابيب ضائقة طهران الاقتصادية، الامر الذي سينعكس ايجابا على الداخل الايراني وعلى جمهور الايرانيين، وبالتالي سيؤدي الى ازالة كل الرهانات التي كانت قائمة على خيار اسقاط النظام من الداخل بادوات داخلية، وهو ما يسميه نتنياهو، بحسب تصريحات صدرت عنه في اليومين الماضيين: خروج الهواء من طنجرة الضغط على ايران.
وكما يلاحظ هنا، فان كلا الفائدتين اللتين تجبيهما ايران، وهما اصل التركيز والاستراتيجية الاسرائيلية في مواجهة المسار التسووي الحالي مع ايران، وإن كانتا ترتبطان بالموضوع النووي والضغط على ايران للتخلي عن هذا الملف، الا انهما ترتبطان بشكل اساسي باصل وجود النظام، وإيجاد الظروف المؤاتية للعمل على اسقاطه.
رابعا: انتهاء الخيارات العسكرية
ترى تل ابيب، وعن حق، ان تلقف الولايات المتحدة تحديدا، اضافة الى الدول الخمس الاخرى، المقترحات الايرانية ومن بينها تخفيف العقوبات، يعني انها تتلهف على ايجاد حل للبرنامج النووي الايراني، من خلال التسوية والمسارات السلمية، ما يعني اسدال الستار نهائيا عن التهديد باستخدام الخيار العسكري ضد ايران، واسدال الستار عن فاعليته التهديدية في وجهها، حتى وإن كان الاتفاق جزئيا ومرحليا.
وترى تل ابيب ان الاتفاق وتخفيف العقوبات، يعني اشارة او دليلا شبه قاطع من ناحية ايران، على ان الولايات المتحدة لا ترغب ولا تريد وتسعى جاهدة كي تتجنب الخيارات العسكرية، بل هو تأكيد اضافي على انها لا تملك اي رغبة في خوض اي مواجهة عسكرية في المنطقة، وبالتالي يفضح كل الكلام الصادر في السابق عن واشنطن، من ان كل الخيارات مطروحة على الطاولة.
في نفس الوقت، تتأكد طهران من ان اي مغامرة او مقامرة عسكرية اسرائيلية ضدها، باتت مستحيلة، رغم كل الجهود التي بذلتها اسرائيل في السابق، وربما ما زالت على مكابرة، لافهام الايرانيين والغرب على حد سواء، انها تملك القدرة على تنفيذ خيار عسكري ضد ايران، بل وتملك الرغبة ايضا.
25/5/13119
https://telegram.me/buratha