- کتب الناشط السياسي السعودي "فؤاد إبراهيم" في مقال له نشر في صحيفة السفير اللبنانية: ليست هي المملكة التي تعرفونها، المحافظة، المواربة، الهادئة.. كل شيء فيها يتغيّر وبوتائر متسارعة وغير مسبوقة.
يشعر المراقب لما يجري في السعودية بأن ثمة تسافلاً سريعاً لمقام الدولة، وأن سلوك الأجهزة الأمنية والإعلامية والدينية في شكله الموتور إزاء حركة الاحتجاجات، يخبر عن تحوّل عميق في الوعي الشعبي وهو ما يقرر طبيعة ميزان القوى، فقد بدا السلوك الرسمي، وكأن السلطات السعودية باتت جزءاً من لعبة صغيرة، فلم تعد تتصرّف وفق منطق الدولة، وبات اللعب في عراء السياسة وليس في كواليسها، بل تحوّل رجال السلطة في لحظة (انفلات غرائزي) الى مجرد عصابة (فقد هدّد أمير المنطقة الشرقية محمد بن فهد زوّاره الشيعة ذات لقاء بأن أبناءكم المنتشرين في أرجاء المملكة مرصودون ويمكن اقتناصهم) إشارة الى القتل في عمليات طائفية.
في قراءة ما تحت سطح الوقائع الجارية، لا بد من التفريق بين نوعين من الهيبة التي تحيط بالدولة، وتوفّر لها سياج حماية إزاء الثورات الشعبية والتمرّدات العسكرية وهما: الهيبة المعنوية والاعتبارية والهيبة الأمنية.
وفق تحكيم إجمالي، فإن كثيراً من الحكومات العربية فقدت شخصيتها المعنوية والاعتبارية والاخلاقية، وإن ما يجعل بقاءها ممكناً حتى وقت قريب هو قدرتها القمعية، حيث لا تزال كفاءة الأجهزة الأمنية والعسكرية تحول دون اختراق الخطوط الحمراء التي وضعها بعض الحكومات، مثل التظاهرات الشعبية بأعداد ضخمة، أو الانتقاد العلني لذوات النظام (الذات الملكية والذات الأميرية..الخ)، أو انتهاك القوانين الأساسية التي تعيق عمل الدوائر الرسمية، وتحطيم بعض المؤسسات العمومية المرتبطة بالنظام، أو حتى حرق صور الأمراء بما ترمز إليه في الثقافة الشعبية من رمزية اعتبارية أو أداة ضبط سياسية.
في الحالة السعودية، تتهاوى الهيبة المعنوية والأخلاقية للنظام الحاكم كما يظهر من التجاذب المفتوح بين النظام والقوى السياسية والاجتماعية. لدى غالبية سكّان المملكة قناعة راسخة بأن العائلة المالكة فاسدة مالياً وأخلاقياً، وغير جديرة بأن تحظى بالتقدير، ولكن ثمة ما هو أبعد من ذلك حصل أيضاً.
اليوم، تمرّ الهيبة الأمنية للنظام باختبار حاسم، بعد أن عقمت (ثقافة الخوف) عن أن تلد جيلاً من المذعورين، رغم أن الامبراطورية الاعلامية السعودية تحوّلت الى ما يشبه جهازا أمنيا وأداة تخويف محض، كما تنبئ عن ذلك مقالات الكتّاب والصحافيين والتقارير التلفزيونية. المثال الأكثر جنوحاً في الآونة الأخيرة هو مقالة الكاتب علي الجحلي في صحيفة (الاقتصادية) بعنوان (مسؤوليات مواطني العوامية) بتاريخ 21 شباط (فبراير) الفائت، والذي حمل رسالة أمنية عارية لسكّان بلدة العوامية، الرائدة في الحركة الاحتجاجية في منطقة القطيف، بما نصّه «إن ترك مواطنو العوامية هؤلاء الغوغائيين ليفعلوا ما يشاؤون، فهم هالكون جميعًا»! من المفارقات المقرفة أن صحيفة تعنى بشؤون الاقتصاد، ومستقبل التنمية الاقتصادية في هذا البلد يكرّس محرّروها مقالاتهم لإيصال رسائل الموت الى المحتجّين بصورة سلمية. رئيس تحرير الصحيفة سلمان الدوسري في مقالة بعنوان (القطيف وخطباء التزييف) في 22 شباط الفائت يقول بالحرف «الحقيقة التي حاول أولئك الخطباء تزييفها، أنه لم تطلق رصاصة واحدة تجاه مَن خرجوا في تظاهراتهم، فهذه التظاهرات تتعاطى معها الدولة وفق آلية محددة معروفة مسبقاً»، فثار السؤال الغاضب: إذاً كيف قضى سبعة شباب نحبهم، وآثار الدماء والرصاص تغطي أجسادهم، الى جانب عشرات المصابين برصاص الأمن السعودي؟
الاعلام، كما الدولة، يعمل أحياناً على النقيض من رسالته، فلم يعد كشف الحقيقة وظيفة له، بل عكسها تماماً.. ويبقى للشعب حقيقة، بل حقائق أخرى جليلة.
أنا الشهيد التالي
موجة من البرامج المصوّرة النقدية التي لا تزال توضع على شبكة «اليوتيوب» يعدّها ويقدّمها شباب عجز الاعلام الرسمي عن استيعاب رسائلهم، فراحوا يمارسون حرية التعبير على طريقتهم بنقد سياسات الدولة، والفقر، والبطالة مثل برنامج (ملعوب علينا) الذي جرى اعتقال الطاقم المشرف عليه بأكمله، بعد إنتاجه برنامجاً عن الفقر في السعودية، وبرامج شبابية أخرى خطفت النجومية في العام 2011، بحسب صحيفة (الرياض) في مطلع العام الجديد 2012، كونها عبّرت عن مطالب الشباب وشكّلت «مساحة واسعة للتعبير عن جيلهم وتسجيل موقفهم الاجتماعي من الأحداث..» بحسب الصحيفة.
في ذروة المشهد الشبابي في المملكة، تأتي ظاهرة «الشهيد التالي» في تظاهرات القطيف، بكثافة حضورها الشعبي واكتظاظها الدلالي، ما تستوجب وقفة تأمل طويلة، فلأول مرة تصبح (الشهادة) قضية تخضع للمنافسة بين شباب يكتبون أسماءهم في قائمة الشهداء على صفحات (فيسبوك). على سبيل المثال، فقد كتب الشهيد الشاب زهير السعيد (من بلدة العوامية) جملة: «يا رب متى ألتحق بشهداء القطيف» وقد تحققت أمنيته، وكتب الشهيد عصام أبو عبد الله في 6 كانون الثاني: «متى ستضجُّ القطيف بخبر استشهادي، اللهم اجعل هذا اليوم قريباً»، وتحقق ذلك في 12 كانون الثاني الماضي. كلمة والد الشهيد عصام في وداع ابنه كانت هي الأخرى معبّرة، فلأول مرة في تاريخ هذه المنطقة يعاهد والد ابنه بالسير على خطاه، ومواصلة مسيرته حتى الموت. عشرات من الشباب كتبوا عبارة (أنا الشهيد التالي) على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يكشف عن ثقافة تضحوية عميقة برزت للسطح في لحظة تاريخية حاسمة.
في الميدان، رفع عشرات الآلاف من الشباب في تظاهرات قرى وبلدات القطيف شعار «أنا الشهيد التالي بالقمع لا أبالي»، والسؤال المشروع هو: ما الذي يدفع هؤلاء الشباب للتخطيط لجهة وضع نهاية لحياتهم بدلاً من التفكير في الحياة والتخطيط للمستقبل، ما لم يكن قد بلغ الإحباط حد كشف الصدور أمام رصاص القوات الأمنية السعودية، وأن يكون التسابق بين الشباب على الموت عنواناً لمسيراتهم فذاك جدير بالتأمل طويلاً.
لأول مرة تصبح كلمة النظام، كما رصاصاته القاتلة، غير حاسمة ولا فاصلة. فالتهديد بـ«الضرب بيد من حديد» لا يلبث أن يتحوّل الى وقود غضب شعبي آخر، حيث إن وراء كل تهديد أمني حضور كثيف في الساحات.
وكذا الحال في السياسة، فقد تصدر الداخلية بياناً إزاء حدث ما ويتم رفضه والرد عليه من قبل قوى سياسية واجتماعية، بل ما يلفت ان الرد يأتي فورياً، فلا يمرّ عليه الناس بصمت أو تجاهل، ففي رد على قائمة الـ23 المطلوبين في منطقة القطيف على خلفية الاحتجات السلمية المتواصلة والتي أصدرتها الداخلية في 3 كانون الثاني الماضي، ظهر عدد من المطلوبين في تحقيقات مصوّرة انتشرت على (يوتيوب) تشـرح أوضاعهم المعيشية وتختتم بنفي اتهامات الداخلية والإصرار على مواصلة الاحتجاجات حتى تحقيق المطالب العادلة.. إنه مشهد مع كثافة البـعد الإنساني الدرامي الثاوي فيه، إلا أنه يشي بتحوّل جوهري في الوعي وفي العلاقة بين الدولة والمجتمع.
«إفلاس سياسي»
لم تتوقف سلسلة الردود على بيانات الداخلية، وآخرها ما أعقب بيان الداخلية حول خطبة الجمعة للشيخ حسن الصفار، من علماء الشيعة البارزين في القطيف، والتي استنكر فيها استخدام قوات الأمن الرصاص الحي ضد المتظاهرين وتساءل: «الحكومة التي تستنكر سفك الدماء في بلدان اخرى كيف تسمح للقوى الامنية أن تشرع في إطلاق النار على الناس العزل»؟».
وفي رد فعل على بيان الداخلية، أصدر ما يربو عن 40 عالم دين في الإحساء، ذات الغالبية الشيعية، بياناً في 22 شباط الجاري عبّروا فيه عن رفض استخدام (لغة الرصاص) ضد المسيرات السلمية في القطيف، وطالبوا بفتح تحقيق مستقل وجاد عن حالات القتل والإصابات والعنف الذي تعرض له المواطنون في القطيف، «وتعويض أهالي الشهداء والجرحى»، كما طالبوا بإزالة نقاط التفتيش، والافراج عن السجناء السياسيين.
وفي اليوم التالي صدر بيان تضامن مع الشيخ الصفار من مجموعة رجال دين شيعة ونفي ما ورد في بيان الداخلية من اتهامات.. أحد رجال الدين وصف في بيان علني ما تقوم به الحكومة السعودية بأنه «إفلاس سياسي».
وبصورة عامة، كان رد فعل الشارع القطيفي غاضباً حيال تهديد وزارة الداخلية بالتعامل بحزم مع الاحتجاجات، حيث خرجت مسيرات في 22 شباط في مدن سيهات وصفوى والقطيف المدينة ورفعت شعارات مثل: «نحن أبناء القطيف.. بيانكم لا يخيف».
اللافت أن رجال الدين الشيعة المقرّبين من النظام نأوا بأنفسهم عنه، بعد أن اكتشفوا أن صحافته تحاول استخدامهم في معركته ضد حركة الاحتجاجات في المنطقة الشرقية.
ليس المشهد الاحتجاجي قطيفياً أو بالأحرى شيعياً على أي حال، رغم محاولات النظام السعودي لجهة جعله كذلك، حتى يحقق خطاب (التجييش الطائفي) مفعوله المأمول، والواقع أن ظاهرة الاعتراض السياسي شعبية وعابرة للمناطق والطوائف، وتمثل مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر وفيسبوك) المجسّات الحقيقية لعمق ومساحة التحوّل في وعي شعب المملكة السعودية. مثال عابر: ذكر رئيس جمعية الحقوق المدنية والسياسية في السعودية وعضو هيئة حقوق الإنسان في السعودية، وهي هيئة شبه رسمية، محمد فهد القحطاني في برنامج تلفزيوني على قناة الحرة في 2 أيلول من العام الماضي بأن هناك 30 ألف معتقل سياسي في السعودية. ومن المؤكّد أن الغالبية الساحقة من هؤلاء المعتقلين هم من المناطق الأخرى، أو بالأحرى من غير الشيعة.
أما المشاهد الاحتجاجية فهي شبه يومية وجمّة، وأبرزها مداخلة زهير الكتبي، الكاتب والناشط السياسي الحجازي، في برنامج «البيان التالي» على قناة «دليل» الفضائية في 17 شباط حول الفقر في السعودية، ونزعه الألقاب عن كبار الأمراء وتحميلهم مسؤولية تفـشي ظاهرة الفقر، وتحذيره من ثورة شعبية، فقد كانت المداخلة علامة فارقة في الحراك الشعبي الداخلي. رد فعل النظام السعودي المعروف سلفاً حسب الكتبي نفسه على صفحته في تويتر هو التالي: أبلغني وكيل وزارة الاعلام السعودية بصدور تعليمات تقضي بمنعي من الكتابة. ثم ذكر في تغريدة له في 21 شباط «ادعوا لي لان القوم يأتمرون ضدي وخاصة أني حجازي ليس لدي من يقف معي فادعوا لي بإخلاص وصدق فالدعاء هو ما نملك والله فوق كل جبار عنيد..».
على مدى عام جرى اعتقال عدد من الكتّاب على خلفية التفاعل مع الربيع العربي، فقد تساءل خالد الماجد، أستاذ الفقه في جامعة الإمام بالرياض في 22 شباط من العام الماضي 2011 «ماذا لو قال السعوديون: الشعب يريد إسقاط النظام؟»، فاعتقل في اليوم التالي، وجاء من بعده عشرات يكتبون مقالات نقدية وينشرونها في الصحف العربية خارج الحدود أو على الشبكة أو يتداولونها في مواقع التواصل الاجتماعي، وبنفس الزخم الاحتجاجي وسقف المطالب الشعبية.. باختصار: لم يعد فصل الخطاب بيد الدولة، فالمجتمع قد انتزع حق الرد، ويقاسمها القوة، ففي مقابل بيان هناك رد، ووراء كل قمع هناك غضب وإصرار على المواصلة.. وهذا بكلمة أخرى: انكسار النظام.
في الداخل كان ثمة ما يلفت الى الجنوح الطائفي. ففي قلب عاصمة المملكة السعودية، الرياض، وفي مركز سعود البابطين للتراث والثقافة، تعقد ندوة علمية لمدة ثلاثة أيام (16ـ 18 شباط 2012) بعنوان «حقيقة المعتقد الرافضي وخطره على المجتمعات السنيّة»، تنبئ محاورها عن طبيعتها وأهدافها «الاصل اليهودي والأصل المجوسي للتشيع ومخاطر المشروع الشيعي ووسائل وأدوات التصدي له نموذجاً».
خلف العاصفة الطائفية يكمن قلق شديد لدى العائلة المالكة من أن خطراً وجودياً يحدق بالكيان بفعل تنامي موجة.
13/5/13108
https://telegram.me/buratha