سمير الفزاع
التاريخ مفتاح عجائبي لقراءة الحاضر ، يمنحك خارطة للطريق ، ويقدم لك الضوء المناسب للإنارة على بعض الجوانب المعتمة وغير المفهومة من المشهد الذي تراه أمامك اليوم . من أراد أن يُفكك ويحلّل عناصر المشهد الحالي للمشرق العربي ، يحتاج حتماً إلى ” عدّة ” لا يُمكنه الإستغناء عنها ، وأدوات محضور عليه العمل بدونها . يقف على رأس قائمة هذه الأدوات الخريطة ، خريطة عاديّة تظهر الحدود والجيران والتضاريس والأنهر والبحار … لكن وظيفتها لن تتوقف هنا ، فأنت إن ألقيت نظرة واحدة للخريطة ، ستلاحظ حتماً خرائط عديدة خلف هذه الخريطة البسيطة ، خرائط للحروب وأخرى للحضارات وثالثة للمنافسين والأعداء ورابعة للحلفاء والأصدقاء وهكذا . أي أن الخرائط تستحضر التاريخ حتماً ، ولكن في ذات الوقت تُقدم تصور مهم للحاضر ، لذلك قال آخر جنرالات فرنسا وزعمائها الكبار ” شارل ديغول ” : قبل أن تتحدث بالسياسة تأكد من وجود الخريطة ” . الأداة الثانية الإقتصاد . الأقتصاد أداة تحليليّة غاية في الدقة والروعة ، فهي تفسر أهميّة بقعة جغرافيّة ما دون غيرها ، وتفسر الكثير من الصراعات الدوليّة ، وتؤشر بشكل بالغ الدلالة إلى التطور الإجتماعي والثقافي في البلد موضوع الدّرس والملاحظة . كانت الحروب بالجيوش ” الوطنيّة ” والحملات العسكريّة هي الوسيلة الأكثر إستخداماً عبر التاريخ البشري ” للعبث ” بالخرائط و” تعديل ” الحدود ، وتحقيق الأهداف السياسيّة والإقتصاديّة والتوسعيّة . ومن أهمّ النماذج الحديثة على هذا الشكل غزو العراق 2003 ، عندما أرسلت أمريكا مئات الألآف من الجنود لغزو العراق ، متحالفة مع عدد كبير من الدول العربيّة والغربيّة ، ولنلاحظ هنا – ولنتذكر جيداً هذه الواقعة لأنه سيبُنى عليها أشياء مهمة جداً لاحقاً – بأن بريطانيا كانت الشريك الحقيقي والأساسي في هذا الغزو ، والأمر ذاته كررته بريطانيا في أفغانستان ، مع إضافة مهمة ، أن قوة المشاة الأكبر الموجودة في أفغانستان جاءت من تركيا هذه المرة ، بعكس موقفها في العراق ، عندما ” رفضت ” المشاركة بغزو العراق أو إستخدام أجوائها لضربه .
* حروب من نوع آخر .
مع تطور الوسائل القتاليّة عند معظم دول العالم ، وصعوبة ” هضم ” الغزو المباشر من دولة لأخرى ، وتطور وسائل نقل المعلومة والصورة ، وإرتفاع كلفة الحرب بشكل جنوني ، وظهور التكتلات والأحلاف … ظهر نوع جديد من الحروب ، أُطلق عليه إصطلاحاً ” حرب العصابات ” . حتى أكون منصفاً وواقعيّاً فإن حرب العصابات لم تكن يوماً إلا حرب بين دولة وأخرى بالواسطة ، ولكنها تكون مرة حرب عصابات ” قذرة ” ، كما فعلت أمريكا في معظم دول أمريكا الجنوبيّة مثلاً ، وأحيانا تكون هذه الحرب مبنيّة على تقاطع المصالح وتشابكها ، كما حصل مع أمريكا ذاتها في فيتنام . وحصل الأمر ذاته مع الإتحاد السوفيتي في أفغانستان ، وعندما دخل السوفييت أفغانستان 1975 قال ” بريجينسكي ” : آن لنا أن ننتقم ، سنجعل منها فيتنام الإتحاد السوفيتي ” . ولحرب العصابات مواصفات عديدة ، منها :
1 – إنها حرب حقيقيّة بين دولتين ، لكن دون ” تورط ” هاتين الدولتين مباشرة في حرب كبيرة وطاحنة .
2 – تمثل هذه الحرب إستنزاف قاتل للدولة المُستهدفة ، والنتيجة ” الحتميّة ” لها خسارة هذه الدولة المستهدفة .
3 – تلجأ الدول لمثل هذه الحروب لأن كلفتها الميدانيّة والعسكريّة والسياسيّة ” قليلة ” في معظم الحالات .
4 – العنصر البشري الذي ينفذ هذه الحرب يكون ” غالباً ” محلي ووطني الطابع ، ولكن ظهر إستخدام للعناصر الأجنبية في حالات خاصة ، كما حدث في أفغانستان وسوريا .
5 – إستخدم هذا الإسلوب بكثرة من قبل كلّ حركات التحرر الوطني ، وتشكيلات المقاومة الشعبيّة .
* سوريا تكسر ” القاعدة ” وتنتصر .
كنت قد ذكرت بأن النتيجة ” الحتميّة ” لحرب العصابات هي خسارة الخصم المُستهدف بهذا النوع من الحروب ، ولكن في سوريا كُسرت هذه القاعدة بشكل فظ وقاس . فلماذا إنتصرت سوريا ؟
1 – في منطقتنا العربيّة هناك إمتحان شعبي وحقيقي لشرعيّة أي قيادة ، يتشكل بناء على الموقف التاريخي لهذ القيادة من قضيّة فلسطين ، والصراع العربي الصهيوني . بكل صراحة لا يوجد اليوم قيادة عربيّة واحدة تمتلك هذه الشرعيّة إلا القيادة السورية .
2 – والمصدر الثاني للشرعيّة يُستمد من دعم هذه القيادة أو تلك ، لحركات التحرر الوطني والمقاومة العربيّة ، وهو ما يعتبر دليل على وطنيّة قرارها . مرة أخرى لا تمتلك أي قيادة عربيّة مثل هذه الشرعيّة إلا القيادة السوريّة .
3 – الموقف من أمريكا . للشعب العربي – بمعظمه – موقف مناهض لأمريكا ، نتيجة لسياساتها العدوانيّة تجاه العرب ، ودعمها المطلق لكيان العدو ، ولأنظمة العفن العربي . والقيادة العربيّة الوحيدة التي لها تاريخ حافل من العداء مع أمريكا هي القيادة السوريّة ، والقيادة العربيّة الوحيدة التي لم تطأ أرض أمريكا منذ العام 1970 – على الأقل – حتى اليوم هي القيادة السوريّة .
4 – سوريا البلد العربي الوحيد الذي يعيش حالة من الإكتفاء الذاتي في معظم حاجاته الأساسيّة ، وهي البلد العربي الذي ما زال – حتى اليوم – يطبق مجانيّة التعليم الأساسي والثانوي والجامعي والصحة .
5 – أظهرت القيادة السوريّة ” مرونة ” كبرى تعبر عن قناعة ذاتيّة بضرورة الإصلاح ، وتطبيق إصلاحات ديموقراطيّة شاملة .
6 – أن الدعم المادي للقوى المناهضة للسلطة على الساحة السوريّة ، جاء بكليته من أنظمة معادية لسوريا الوطن تاريخيّاً . كأميركا وفرنسا والسعوديّة وقطر وتركيا والكيان الصهيوني … ما يطرح ألف سؤال منطقيّ عن أغراض هذا الدعم وطبيعة من يتلقاه والنتائج المرجوة منه .
7 – تدفق عشرات الألآف من القتلة المحترفين ، وقوى الإرهاب المنظم ، والكثير من فرق الكومندوز لضرب مفاصل الدولة السوريّة ، وتخريب مقدراتها ، وتدمير عناصر قوتها ، وإضعاف بنيانها … . وشكل هذا صدمة للشعب العربي السوري ، وكلّ قوى التغيير السلمي والديموقراطي ، وكشف السبب الحقيقي من وراء هذا الدعم اللامحدود .
8 – كان واضحاً بأن هناك نسبة ” معتبرة ” جداً من الشعب العربي السوري تدعم القيادة السوريّة ، ومستعدة للذهاب خلفها إلى آخر الطريق ، وكان هذا جليّاً في المظاهرات المؤيدة ، وتماسك مؤسسات الدولة ، وخصوصاً الجيش العربي السوري .
9 – عندما تعرضت القيادة السوريّة لتهديد خارجي بإستخدام واسع للقوة ، أظهرت شجاعة وطنية وصلابة يندر وجودها اليوم ، وكانت مستعدة للذهاب في المواجهة إلى أبعد مما يعتقد الأصدقاء والأعداء والخصوم .
* فرضيّة
عندما تنجح دولة ما بإسقاط عدوان ، فإن نجاح هذه الدولة لا ينحصر بردّ العدوان ، بل يمتد للتأثير على البنيّة المُحركة للعدوان وأدوات هذا العدوان ، فيصيبها التلف والتصدع إن عاجلاً أو آجلاً . وأحد بوادر هذا التلف والتصدع الذي يعصف اليوم بجبهة العدوان على سوريا هو الخلاف العميق والهاديء – حتى اللحظة – بين أمريكا وبريطانيا . وأحد الأسباب الجذريّة لهذا الخلاف ، يعود لإسقاط أمريكا لأداة بريطانيّة عملت على تصنيعها منذ قرن كامل ، وخدمتها بشكل مميز جداً طوال الوقت ، إنها جماعة الإخوان المسلمين . فقد أسقطت أمريكا هذه الأداة إثر فشلها المريع في مصر – ولنتذكر هنا مقولة كلنتون ” إن شركائنا يفتقرون للخبرة ” – وأستبدلتها بأداة أثبتت نجاعتها في عدة مناطق ” كأفغانستان مثلاً ” إنها الوهابيّة المقاتلة ممثلة بالقاعدة وأخواتها ، المنتج الأمريكي – الوهابي الخالص . وهذا الصراع جليّاً جدا اليوم في الشمال السوري ، حيث تقوم ” داعش ” الوهابيّة القاعديّة ، بكنس وتصفيّة كل الأدوات المنافسة الأخرى ” لواء عاصفة الشمال – تركي ، لواء التوحيد – قطري … ” ، وهذا يظهر مدى ” التباعد والتنافس بين حلف العدوان من جهة ، والأثر القاسي للنصر السوري من جهة أخرى . حيث راح حلف المعتدون يأكل بعضهم بعضاً ، ليحجز له مقعد في جنيف – 2 ، ويوقف تداعيات النصر السوري على بنيته السياسة الداخليّة . ولنراقب جيداً ما سيجري في تركيا ولبنان ومملكة آل سعود … خلال الفترة القريبة القادمة ، لنتأكد من صدق هذه الفرضيّة ، فما جرى في مصر جزء هام منه يعود الفضل فيه لصمود سوريا وصبرها ونصرها .
26/5/13108
https://telegram.me/buratha