غريغوري سينايسكي
أدهش تراجع أوباما عن قراره بقصف سوريا العالمَ. فلفترة طويلة كان يتحدث عن استخدام الأسلحة الكيماوية من قبل نظام بشار الأسد بصفته “خطاً أحمرَ”. كان هناك شعور بأن كلامَ أوباما على استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا كان يشبه “بندقية تشيخوف” الشهيرة – ففي مسرحية مكتوبة بشكل جيد, إذا كانت هناك بندقية معلقة على الحائط فلا بد أن تستخدمَ في المشهد الأخير.
كان أوباما يعرف بالتأكيد, ولوقت طويل, أن معظم الأمريكيين ضد التورط في سوريا. وقد قال هو نفسه إنه ليس ملزماً بالرجوع إلى الكونغرس للموافقة على شن حرب يتم التحكم بها عن بعد.
لم يقم أحد في الإعلام الرسمي بتحليل الأوجه التقنية للهجوم, كما لم يشك أحد – حسب معرفتي – بقدرة القوات المسلحة الأمريكية على القيام بهذا الهجوم. إلا أن تحليلَ كاتب هذه المقالة, المستند بشكل رئيس على معطيات من المصادر المفتوحة والحس السليم التقني, يبين أن سبب هذا التراجع يمكن أن يكمنَ في قصورات القدرة العسكرية على تنفيذ هجوم ساحق و “نظيف” على سوريا.
إذا كان ذلك صحيحاً, يمكننا أن نفهمَ لماذا لم يطلع جنرالات البنتاغون أوباما على الأخبار السيئة, أملاً في حدوث شيء ما ينقذهم من ورطتهم. فعندما اقتربت لحظة الحقيقة فقط, تم إبلاغ أوباما بتعذر تنفيذ خطة الهجوم لأسباب تقنية.
تم الإعلان أن الهجومَ الأمريكي على سوريا سيبدأ بصَلية افتتاحية من عدة مئات من صواريخ “توماهوك” يتم إطلاقها من السفن التابعة للبحرية الأمريكية المنتشرة في البحر الأبيض المتوسط. وهذا تكتيك يستخدم عادة ضد عدو يملك نظامَ دفاع جوي قوي. وبعد تدمير دفاعات العدو الجوية إلى درجة غياب احتمال إسقاط الطائرات الحربية, يبدأ القصف الجوي, يليه – في حال الضرورة – هجوم القوات الأرضية أو القوات المحلية الحليفة للولايات المتحدة. وقد سمحت هذه المقاربة للولايات المتحدة بشن حملتيها الأخيرتين في العراق وليبيا بخسائر قليلة تبعث على الدهشة.
“التوماهوك” سلاح غير مناسب لقصف المناطق بسبب كلفته العالية. حيث ينحصر استخدامه في تدمير أهداف ذات قيمة عالية. وبما أن سعر الصاروخ الواحد يبلغ 1.5 مليون دولاراً, فحتى الولايات المتحدة لا يمكنها أن تستخدم أكثر من بضع مئات من هذه الصواريخ. وبالمقابل فإن كلفة قنبلة بحرية, بما في ذلك عملية الإطلاق, لا تتجاوز عشرات الآلاف من الدولارات.
الدقة المزعومة لصاروخ “توماهوك” تصل إلى 10 أمتار. وهناك زعم بأن 90% من المواقع المستهدَفة تتعرض للدمار. فكيف يمكن تحقيق هذه الدقة؟
يتمتع “توماهوك” بأنظمة توجيه متعددة – “جي بي إس” (نظام تحديد المواقع الكوني), و “آي إن إس” (نظام الإبحار الاستمراري), و “تيركوم” (مطابقة خطوط التضاريس الخارجية), و “دي إس إم إيه سي” (مطابقة المنطقة المتعالقة الرقمية). ويستخدم “تيركوم” معطيات مقياس الارتفاع الرادارية للمقارنة مع خارطة مخزنة للمنطقة. ومن الواضح أنه لا يمكنه أن يعمل فوق المناطق المسطحة أو المياه, وحتى فوق منطقة جغرافية معقدة هناك احتمال كبير بأنه سيضل طريقه.
أما “دي إس إم إيه سي” فهو مبني على مقارنة الصورة المخزنة للمنطقة المستهدَفة بالصورة التي تنتجها الكاميرا البصرية الموجودة على السفينة. ويمكن لهذا النظام أن يعملَ في تحديد مبنىً معزولاً في الصحراء, لكنني أشك بأنه يعمل بشكل موثوق في منطقة معقدة, وخاصة في بيئة مدنية.
تتطلب الطريقتان المذكورتان أعلاه توفر المعطيات وتحميلها على كمبيوتر الصاروخ مسبقاً, بينما تمكن برمجة الأهداف التي يحددها نظام “جي بي إس” أثناء الطيران. ومن غير الواضح إن كان الجيش الأمريكي قادراً على إنتاج معطيات لنظام “دي إس إم إيه سي” من معطيات الأقمار الصناعية أو في حال الحاجة إلى المراقبة الجوية لكل من الأهداف.
يتمتع نظام “آي إن إس” في الطائرات المدنية بخطأ موقعي تقريبي يصل إلى ميلين بحريين في الساعة. وليس هناك أي سبب يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الأنظمة العسكرية أكثر دقة في الوقت الحاضر. وهذا يعني أنه في غياب إشارة “جي بي إس” لفترة زمنية طويلة, يتم فقدان دقة التوجيه الضرورية. وقد اقتبسَت مجلة عسكرية فضائية عن مسؤول قوله إن فقدان الدقة يحدث بعد 30 ثانية من فقدان إشارة “جي بي إس”.
بمقدور المرء الاستنتاج أن دقة ومرونة وسهولة إعادة توجيه صواريخ “تومتهوك” مبنية على نظام “جي بي إس” وأن كافة أنظمة التوجيه المساعدة الأخرى لا تعمل بشكل كوني ويمكن ألا تكون مناسبة إطلاقاً في بعض الظروف, اعتماداً على أوجه مثل نوعية المنطقة الجغرافية التي تفصل بين القاذفة والهدف.
وقد تم الاعتراف بهذه المشكلة في منشورات متخصصة. فقد اقتبست “الإلكترونيات العسكرية والفضائية” مسؤولين لم تذكر أسماءَهم من “داربا” الأمريكية (وكالة المشاريع الدفاعية البحثية المتقدمة) قولهم إن “الاعتماد العسكري على إشارات ‘جي بي إس’ لتحديد معلومات الدقة والإبحار والتوقيت هام بالنسبة إلى أنواع كثيرة من الأسلحة العسكرية”.
وفي كتاب نشرته “جامعة الدفاع الوطني” الأمريكية, هناك إشارة إلى أن “المؤسسة العسكرية حددت واعترفت بإمكانية تعرض أحدث جيل من أسلحتها الموجهة بواسطة “جي بي إس” للتشويش. فبدون توفر الذخيرة الدقيقة والشروط الضرورية لاستخدامها الناجح, فإن الحاجة إلى أعداد الهجمات المفاجئة والمجازفة المرتبطة بكل ضربة تتزايد بشكل كبير”.
تم الإدلاء بهذا التصريح الأخير في سنة 2002, ولكن مؤخراً في مجلة “الإلكترونيات العسكرية والفضائية” اعترف مسؤول في القوى الجوية اسمه دان فوكنر أن المشكلة بعيدة الحل. فتبعاً لفوكنر, تطور الولايات المتحدة أنظمة توجيه يمكنها العمل من دون “جي بي إس”, لكن هذه الأنظمة بحاجة إلى 20- 30 سنة قبل أن تدخلَ الخدمة.
في 16 نيسان/إبريل 2012 أعلنت “داربا” أنها تقوم بأبحاث حول “سي- سكان” (المبحر الذري المختلط على مستوى الرقائق”. وقد جاء بالحرف الواحد أن “البرنامج يسعى إلى مواجهة التحديات المرتبطة بالانحراف بعيد المدى, والمدى الدينامي, وزمن البدء بمكونات مستوى الرقائق من أجل تحديد المواقع, والاستهداف, والإبحار, وأغراض التوجيه”.
من المفترض أن يكون هذا نظامَ “آي إن إس” متطوراً يوفر التوجيه الدقيق للأسلحة دون الحاجة إلى أية غشارة خارجية. لكن هذا النظام لن يكون متوفراً في القريب العاجل. وفي هذه الأثناء لا بد أن خصومَ الولايات المتحدة يبذلون جهوداً كبيرة في تصنيع أنظمة قادرة على تحييد الأسلحة “الذكية”.
في سنة 2009, في “معرض موسكو البحري والفضائي الدولي”, عرضت شركة روسية أجهزة تشويش على “جي بي إس” للاستخدامات العسكرية. وقد تحدثتُ إلى كبير مهندسي هذه الشركة الذي ادعى أن معداتها استخدمت في العراق في سنة 2003 ودفعت, مبدئياً, صواريخ “توماهوك” إلى التحليق بشكل عشوائي وبعيداً عن مسارها وصولاً إلى تركيا. وتبعاً لهذا المهندس فإن الخطأ الذي ارتكبه العراق هو شراء عدد قليل من أجهزة التشويش التي تمكن الأمريكيون من تدميرها قبل أن يستأنفوا استخدامَ الصواريخ الموجهة بواسطة “جي بي إس”.
لن تكون أجهزة التشويش على “جي بي إس” باهظة الثمن في حال تم إنتاجها بكميات كبيرة. إذ سيكون من الممكن شراء المئات أو الآلاف منها بسعر صاروخ “توماهوك” واحد.
هناك حالياً نظامان متوفران لزيادة مقاومة أجهزة “جي بي إس” للتشويش. إذ يحاول إحداها تحقيق تزاوج دقيق بين “جي بي إس” و “آي إن إس” باستخدام الرقائق المتطورة. ويمكن لهذه الطريقة أن تكون مفيدة عندما يكون التشويش على “جي بي إس” متقطعاً, ولكن ليس عندما يطير الصاروخ عبر منطقة مستمرة يكون فيها “جي بي إس” مقطوعاً. بينما تتمثل الطريقة الثانية في استخدام هوائي توجيهي يعمل على منع تلقي الإشارة باتجاه مصدر تشويش أو عدة مصادر تشويش. وقد تم تقديم نظام مماثل من قبل الشركة الكندية “نوڤ آتيل”. ولكن من غير المؤكد إن كان نظام كهذا, حتى في حال تركيبه على صواريخ “توماهوك”, سيعمل ضد مصادر متعددة أو ضد إشارات تشويش قوية.
يمكننا الافتراض أن سوريا قد تعلمت من التجربتين العراقية والليبية وحصلت على عدد كبير من أجهزة التشويش على “جي بي إس” من روسيا. ويمكن للمئات أو الآلاف من هذه الأجهزة أن تغطي بسهولة منطقة واسعة حول دمشق والمناطق الهامة الأخرى, بحيث تحرف صواريخ “كروز” عن مسارها بمئات الكيلومترات. ويمكن لمنطقة التشويش على “جي بي إس” أن تبدأ فوق المياه حيث لا يعمل نظاما “تيركوم” و “دي إس إم إيه سي” بكل تأكيد. وباستخدام القوارب الصغيرة, يمكن توسيع منطقة التشويش إلى مسافة مئات الكيلومترات من الشاطىء.
ويتمثل قصور آخر في أن وجود الصواريخ المتطورة المضادة للسفن المزودة من قبل روسيا لا يسمح للسفن الأمريكية بالاقتراب من الشواطىء السورية والمهاجمة من مسافة قريبة, ولذلك سيكون على الصواريخ أن تطيرَ مسافات طويلة فوق المياه, وربما دون إشارات “جي بي إس”, مما سيولد صعوبات في استئناف نظام إبحار “تيركوم” فوق الأرض.
في هذه الظروف, لم يتمكن جنرالات البنتاغون من ضمان النصر النظيف والمؤثر الذي توقعه أوباما. بالطبع لا يمكن لأحد أن يتنبأ بنتائج ضربات “توماهوك” بشكل أكيد, ولكن من المؤكد أنها لن تكون دقيقة في أفضل حالاتها. ماذا يمكن لهؤلاء الجنرالات المساكين أن يفعلوا بعد ذلك؟ أن يرسلوا القاذفات فوق الدفاعات الجوية القوية ويجازفوا بفقدان عدد كبير من الطائرات ومزيد من الإحراج؟
يتمثل الحلُ الأكيد الأفضل في تحويل الضرورة إلى فضيلة والطلب من الكونغرس المتردد الموافقة على الضربة, ومن ثم إعلان انتصار الديمقراطية الأمريكية العظيمة بعد رفض الكونغرس لخطة القصف !!!
إيشا تايمز
28/5/13107
https://telegram.me/buratha