أصبحت مناقشة الموضوع المسهب، من الذي بدأ الحرب العالمية الثانية؟ والذي كان يبدو مغلقا منذ آمد بعيد، "موضة" شديدة الانتشار في الصحافة الغربية، ومع ذلك، يمكن تفسير هذه "الموضة" ببساطة، إذ أن "الحرب الباردة" التي يَعتبر الغرب أنه حقق النصر فيها قد انتهت منذ فترة طويلة، كما أن الوقت قد حان "لينظف" كل واحد ماضيه كي لايقلق على نصاعة هندامه في معارك مع "امبراطورية شر" جديدة
وذلك، لأن تهمة إشعال فتيل الحرب العالمية الثانية قد تقرر إلقاؤها إما كليا على الاتحاد السوفييتي أو في أفضل الأحوال مناصفة على هتلر وستالين، وكما كتب المواطن الروسي المنشق ريزون/سوفوروف وهو جالس في بريستول (بريطانيا العظمى)، إن "الشيوعيين السوفييت يتهمون جميع بلدان العالم ببدء الحرب العالمية الثانية لإخفاء دورهم المشين في إشعالها".
إلا أنه ينبغي على "المؤرخين" المعاصرين في الغرب أن يدركوا أنه إذا كان هناك من يليق بهم في هذه الحال دور مشعلي الحرب، فإنها حكوماتهم في ذلك العهد، كالولايات المتحدة الأمريكية، التي نأت بنفسها عن المشاركة في ترتيب الشؤون الأوروبية بالإضافة إلى انكلترا وفرنسا بشكل رئيسي، حيث نضجت في هذه البلدان بالتأكيد سياسة التهدئة مع هتلر، الذي ُسمح له في البداية بإغفال شروط معاهدة فرساي للسلام، وخصوصا شرط تجريد ألمانيا من السلاح ومن ثم ببدئه التوسع الإقليمي. واليوم، يفضل الساسة الغربيون عدم العودة بالذاكرة إلى عار ميونيخ عام 1938، عندما، وبكل بساطة، قام رئيس الوزراء البريطاني تشامبرلين والرئيس والفرنسي دولادييه بتقديم تشيكوسلوفاكيا إلى هتلر مقابل ورقة مشكوك في أمر ما تحمله من أنه لن يحارب ضدهما، حينها أعلن تشامبرلين، وهو يلوح بهذه القطعة من الورق "إنني أحمل السلام إلينا جميعا"، ما دفع تشرتشل المعارض حينذاك، أن يقول لقد "كانت لدينا إمكانية الاختيار بين الحرب والعار، وقد اخترنا العار، ولكننا سوف نحصل على الحرب أيضا".
وبهذا الصدد، كتب الرئيس الأمريكي روزفلت بعد الهجوم الألماني على الاتحاد السوفياتي مباشرة، أن "ذلك يدل على تحرير أوروبا من الهيمنة النازية، وفي الوقت ذاته، إنني لا أعتقد أنه يجب أن نقلق بشأن احتمال ما لهيمنة روسية "، إلا أنه وبعد بضع سنوات، تغيرت الأمزجة في معسكر الحلفاء كليا.
ويمكن رسميا، اعتبار خطاب تشرشل في الخامس من آذار/مارس عام 1946 في المدينة الأمريكية فولتون (بمقاطعة ميسوري) أنه وضع بداية "الحرب الباردة"، ولكن الخطوط العريضة للسياسة الغربية تجاه موسكو جرى تحديدها في وقت أبكر من ذلك بكثير، أي في اجتماع روزفلت وتشرشل الذي جرى في الدار البيضاء (بالمغرب) في كانون الثاني/يناير عام 1943، كان ذلك في تلك الأيام، حين حاصر الجيش الأحمر فرقة الجيش الألماني في ستالينغراد، وحينها لم يكن الحلفاء قد شاركوا في هذه الحرب بعد على أرض القارة العجوز، ولكنهم كانوا يزحفون نحو أوروبا من الجنوب، في مسعى منهم لتصوير عملياتهم في شمال أفريقيا بأنه الحرب على "الجبهة الثانية"، بالرغم من أن عملياتهم لم يكن لها أي تأثير على مجرى الحرب مع هتلر. ويعتقد أن هدف تشرشل من خطابه في الدار البيضاء، كان إقناع الأمريكيين بالتخلي عن فكرة الإنزال في أوروبا عام 1943 من أجل زيادة فعاليات العمليات العسكرية في حوض البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم الزحف نحو مناطق البلقان لاعتراض التقدم الروسي هناك، ومن المعروف أن الغلبة كانت لهذا الرأي، وتؤكد الأراء المعاصرة أن الدار البيضاء أثبتت أنه كان لدى الأنكلوساكسونيين فهم مشترك، بأن مرحلة الانعطاف في الحرب قد حدثت، ولكن كلما تقوضت قوة الروس كلما كان ذلك أفضل.
أما بالنسبة لما يخص مرحلة ما بعد الحرب في عام 1946، فإنه كذلك وقبل خطاب تشرشل في فولتون، جرى هناك حدث ليس أقل أهمية منه، إذ أرسل في 22 شباط/فبراير الدبلوماسي الأميركي جورج كينان، الذي كان يعمل في موسكو حينذاك برقية إلى واشنطن تتضمن ثمانية آلاف كلمة، عرفت فيما بعد "بالبرقية الطويلة"، وكان فحوى هذه الرسالة الفريدة من نوعها (وليس من حيث إطالتها فقط) بسيط جدا، هو أن الروس لا يفهمون سوى منطق القوة، وعلى الغرب أن ينتقل إلى سياسة ردعهم في كل مكان.
وقال كينان في رسالته إن السوفييت لا يدركون ما هو الحل الوسط، وإن "الطابور الخامس للشيوعية" يعمل في مكان من العالم تحت قيادة "الكومنترن السري"، وإن هدف الروس هو تدمير "التعايش الداخلي في مجتمعنا ونمط الحياة التقليدي فيه" سيما وأن هذه السياسة "تعود بجذورها إلى التيارات القومية الروسية العميقة".
فهل من غرابة في خطاب رئيس الوزراء البريطاني المتقاعد في فولتون بعد هكذا "صراحة" لشخص كان يعتبر خبيرا بروسيا، فقد أعلن تشرشل عن شعاره السيء الصيت حول فرض "الستار الحديدي" من بولندا إلى البحر الادرياتيكي، وأعاد للأذهان أيضا مفهوم "الطابور الخامس للشيوعية" الذي يهدد الحضارة المسيحية، وقال "إنه ينبغي علينا الإعلان باستمرار عن المبادئ العظيمة حول الحرية وحقوق الإنسان، والتي هي من تراث عالم الناطقين بالإنكليزية".
وفي رده على ذلك – وقلما هو معروف – قارن ستالين في مقابلة مع صحيفة "برافدا" في آذار/مارس 1946 ذاته تشرشل بهتلر، وقال إن "السيد تشرشل بدأ بشن الحرب انطلاقا من النظرية العنصرية أيضا، ومؤكدا أن الأمم الناطقة باللغة الإنكليزية فقط، هي الأمم المتمتعة بالكمال والمدعوة لتقرير مصير العالم بمجمله".
وفي هذه الغضون، لم يتأخر "تقرير المصير" في الإعلان عن نفسه، حيث أن الرئيس الأمريكي ترومان وبعد انقضاء عام واحد من لقاء فولتون أعلن عن نهجه الجديد، الذي دُعي بمبادئ تحمل اسمه أو ما يعرف بمبادئ التدخل، مؤكدا بقوله إن الولايات المتحدة ستوافق فقط على تلك التغييرات الحاصلة في العالم، التي تعتبرها صحيحة، وعبر النهج الجديد عن استعداد الولايات المتحدة لتقديم المساعدات الاقتصادية والمالية والسياسية العسكرية لجميع الأنظمة، حتى المعادية الديمقراطية، طالما أنها ليست "حمراء"، وبعد فترة قصيرة ظهرت "خطة مارشال"، التي ربطت أوروبا الغربية كليا اقتصاديا وسياسيا بالولايات المتحدة، والتي أصبحت فيما بعد أساسا لحلف شمال الأطلسي، وكما قال هاستينغز أول أمين عام للحلف، إن هدف هذا التحالف هو "تثبيت الروس خارج والأمريكيين داخل والألمان تحت سيطرته".
وفي النتيجة، كان العالم على مدى نصف قرن تقريبا مقسما تماما، بيد أن الروس لديهم اليوم إمكانية التأكد من أنه كما كان حينذاك، كذلك الآن، إن ما يهيمن على الفكر السياسي الغربي ليس الأيديولوجيا، وإنما مصالحهم الجيوسياسية فقط. وأنه ليس من قبيل الصدفة، أن يلجأ السياسة الأميركيون إلى خطاب أزمنة "الحرب الباردة" بصورة متزايدة، محاولين مرة أخرى إظهار روسيا بمظهر "إمبراطورية الشر".
8/5/13924
https://telegram.me/buratha