تتعالى صرخات مجموعة من النساء وهن يعبرن الشارع الموازي لموقع هجوم السبت في مدينة الصدر في بغداد، حيث يقف جبار عبد الصاحب بعباءة تغطيها الدماء يتلقى تعازي جيرانه في مقتل حفيديه.
وعلى بعد أمتار قليلة من عبد الصاحب، يجلس رجل مسن على الارض، يتكئ بيده اليسرى على ما تبقى من اريكة حمراء، يحدق في قطع بلاستيكية من بقايا كراسي زرقاء وخضراء كان يجلس عليها عشرات المعزين قبل أن يستهدفهم الهجوم ويقتل 73 منهم.
وتتناثر على أرض خيمة العزاء التي لم يتبق منها سوى حديدها الأصفر، قطع من البرتقال وقناني المياه، وتقف عند يمينها سيارة محترقة، وعند يسارها سيارة مماثلة، وبينهما شاحنة متفحمة تحت لافتة محل تجاري كتب عليها "الشيخ للزي العربي الاصيل".
وبينما يعبر رجل بدا في حالة صدمة الخيمة ذهاباً وإياباً محدقاً في أرضها السوداء وهو يردد "لا إله إلاّ الله، والله ربي" يتسمر جبار عبد الصاحب تحت واحدة من مراوح الخيمة الثماني التي ذاب حديدها على بعضه البعض، يرد بكلمات محدودة على معزيه.
ويقول جبار لـ"فرانس برس" بصوت منخفض ومتقطع "انفجرت سيارة هنا، ثم حزام ناسف، ثم عبوة. أصيب ابني فحملته بسرعة الى المستشفى، لكنني ما ان وصلت الى هناك، حتى وجدت كل جيراني وقد سبقوني اليها في حالة يرثى لها". ويضيف "مستشفى القادسية بدا مسلخا للحيوانات. برك من الدماء داخله وخارجه، ومصابون يتوزعون في ارجائه ممدين على الارض بلا حول ولا قوة، حتى الذين ماتوا لم يرتاحوا اذ انه لم يكن هناك من اماكن كافية لتبيت جثثهم فيه".
يتوقف جبار فجأة عن الحديث، يحدق الى السماء، ثم يقول وهو يحاول حبس دموعه من دون أن ينجح في ذلك "الناس كانت تفتش عن ابنائها هنا، تحمل اشلاء ولا تدري ان كانت تعود لهم. قتل اثنان من احفادي، واصيب والدهما وشقيقه. حفيدي الاصغر موسى (3 سنوات) كان الاعز على قلبي".
يتقدم رجل ويقبل عبد الصاحب على خده الايسر، ثم يحضنه ويسير معه خطوات قليلة، فيما يتعالى فجأة صراخ مجموعة من النساء وهن يضربن على صدورهن ورؤوسهن في زقاق ضيق يبعد بضعة امتار في لحظة وصول حافلة بيضاء على سقفها نعش يحمل جثمان احد القتلى وقد لف بمنشفة خضراء.
وتعبر الشارع حافلة مماثلة، فثالثة، قبل ان تتوقف حافلة رابعة عند الناحية الاخرى، ليتكرر مشهد النسوة وهن يخرجن من الزقاق، وسط مجموعة من الرجال يهم اربعة منهم بوضع نعش علي عدنان (23 عاما) على السقف.
يصعد الرجال الى الحافلة، تلحق بهم النسوة وبينهم الزوجة الحامل، لتنطلق بهم نحو مقبرة وادي السلام في مدينة النجف، اكثر مدن الشيعة قدسية، حيث سيدفن علي، عامل البناء الذي كان المعيل الوحيد لعائلة تسكن في منزل مساحته 50 مترا في مدينة الصدر الفقيرة الواقعة شرق العاصمة.
تسير الحافلتان بسرعة على الطريق بين بغداد والنجف، وتبدو من نوافذهما أوجه اقرباء القتيلين وهي تحدق في الخارج، وتحديدا في الناحية الاخرى من الطريق التي تعبرها حافلات مماثلة على سقوفها نعوشا مقلوبة للدلالة على انها تعود ادراجها فارغة. تعبر الحافلتان الحاجز الرئيسي عند مدخل النجف بعد تفتيش محتوياتهما، والتدقيق في اوراق ركابهما، وتتوقفان في وسط المدينة عند مكان لغسل الجثامين والصلاة عليها.
ويقول عم علي لـ"فرانس برس" "فضلنا ان نصلي عليه هنا لا ان نطوف به في مرقد الامام علي كما هو متبع حيث ان وضع جثمانه لا يحتمل السير به كثيرا".
يعاد النعش الى سقف الحافلة وقد جلس الى جانبيه شابان يمنعان انزلاقه، لتنطلق عبر شوارع اكبر مقابر العالم، التي تقول الاسطورة المحيطة بها انها يمكن ان تحتضن كل المسلمين، في اتجاه موقع الدفن. ويقول خال علي، نعيم سعد الله، بعدما ساعد في انزال النعش عن واخراج الجثمان منه تحضيرا لدفنه "ليست هذه اول مرة ندفن فيها شخصا نحبه، ولا الثانية، ولا حتى الخامسة. لقد تعودنا على الدفن. سندفنه اليوم، ثم نعود الى حياتنا".
وعند القبر الذي تجمهر اقرباء القتيل حوله، يعمل شابان ارتديا ثيابا بيضاء على توفير المساحة الكافية للجثمان، بينما يهم رجل مسن بتلاوة ايات من القران وبعض الادعية. وما ان يحمل الجثمان الى القبر، حتى يتعالى نحيب النسوة، وتصرخ والدة علي "يا اباه (ابي)، يا يماه (امي)، كسر قلبي، علاوي كسرت قلبي يا يماه"، فيما تحاول زوجته بلوغ جثمانه فيمنعها الرجال من ذلك، لتستسلم لبكاء شديد، وتجلس على الارض وتبدا بضرب جبينها بيدها.
تنتهي مراسم الدفن سريعا، فيعود ركاب الحافلة اليها، وبينهم شقيقة علي الصغرى التي اخرجت راسها من شباك المقعد الخلفي تتامل الحجارة التي وضعت فوق القبر، ثم يعاد النعش الى السقف انما بالمقلوب هذه المرة. ويقول عم علي وهو يتوجه نحو الباب ليكون اخر الركاب "هذا الذي قتل علي، كيف سيواجه ربه اليوم؟ ترى ماذا سيقول له؟".
21/5/13923
https://telegram.me/buratha