طارق ترشيشي
أبرز ما يمكن استخلاصه من التسوية الأميركية - الروسية حول السلاح الكيماوي السوري، هو أنّ هذه التسوية دشّنت إنتهاء عصر الأحادية الأميركية في قيادة العالم، وقد تكون واحدة من مجموعة تسويات - تفاهمات بين واشنطن وموسكو حول عدد من الأزمات الإقليمية والدولية، ستظهر تباعاً في قابل الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة.
ويرى مراقبون انّ التفاهم الروسي - الاميركي الذي أوقف المشروع الاميركي- الغربي لتوجيه ضربة عسكرية لسوريا، والذي فاجأ كثيرين من منغمسين في الازمة السورية وغير منغمسين، ما كان ليحصل لو لم تدرك واشنطن وموسكو مخاطر فعليّة كانت ستهدّد المنطقة والعالم نتيجة ضرب سوريا، وهي مخاطر تتجاوز المجال العسكري الى المجالات الاقتصادية، خصوصاً انّ الولايات المتحدة الاميركية وكثير من حلفائها الغربيين ما زالوا ينوؤون تحت وطأة الازمة الاقتصادية والمالية التي خلفتها حروب الادارة الاميركية السابقة.
ويقول هؤلاء المراقبون إنّ قرار الرئيس باراك أوباما بتوجيه ضربة عسكرية لسورية إتسم بالتردّد منذ اتخاذه، فالرجل الذي أعلن "إنهاء الحروب" أول عناوين برنامجه الانتخابي، وجد نفسه في لحظة ما يناقض هذا العنوان ويندفع الى حروب عاب على سلفه شنّها، ثم التفت الى الأزمة الإقتصادية الاميركية وهي "تركة ثقيلة" ورثها من ذلك السلف، فأدرك انه سيجدّد هذه الازمة ويفاقمها.
وعندما التفت الى مواقف الحلفاء، خصوصاً اولئك الذين شاركوا سلفه الجمهوري حروبه إكتشف وجود تردّد هنا واعتراض هناك، ولكنه فوجِئ بتصويت "مجلس عموم" بريطانيا حليفة الولايات المتحدة الاميركية دائماً "ظالمة كانت أم مظلومة"، ضدّ الضربة العسكرية لسوريا ما جعله يوقف الضربة التي كانت ستحصل بعد ساعات من هذا التصويت، اذ تشير معلومات وردت إلى مراجع رسمية لبنانية انّ هذه الضربة كانت مقرّرة فجر اليوم التالي لتصويت مجلس العموم البريطاني، من دون انتظار تفويض لا يحتاجه في الأصل من الكونغرس الاميركي.
اما الموقف الفرنسي المُعبَّر عنه في الجمعية الوطنية الفرنسية، فقد شكّل المفاجأة الثانية لأوباما إلى جانب مواقف الدول الاوروبية الأساسية كإيطاليا وألمانيا ما جعله يشعر كأنه ذاهب الى الحرب ضدّ سوريا بلا غطاء غربي، او بنصف غطاء غربي - عربي فيما كانت إسرائيل تضرب الأخماس بالأسداس وترفع صوتها لتُخيف سوريا وحلفاءها، فيما هي تصرخ خوفاً من سقوط الصواريخ عليها كزخات المطر من جهات عدّة.
ويعتقد المراقبون أنفسهم انّ المبادرة الروسية الكيماوية، إذا جاز التعبير، أنقذت أوباما في الدرجة الاولى، ولكن مكنت موسكو من العودة لاعباً رئيساً على ساحة المنطقة في ضوء معلومات تتردّد من حين الى آخر مفادها انّ الاميركيين لزّموا ملف المنطقة الى الروس الذين، في رأي البعض، خدموا الإسرائيليين مباشرة او مداورة من خلال وضع اليد الدولية على السلاح الكيماوي السوري الذي يشكّل منذ عشرات السنين التوازن الاستراتيجي في النزاع العربي - الإسرائيلي عموماً.
ويؤكد المراقبون أنّ موسكو لم تكن يوماً بعيدة عن كلّ دول المنطقة من إيران حتى شمال افريقيا، حتى أنها خلال عصر الأحادية الاميركية لم تقطع علاقاتها الديبلوماسية مع ايّ من هذه الدول، الى درجة انّ وزير خارجية دولة الامارات العربية المتحدة الشيخ عبدالله بن زايد شكا للقيادة الروسية بعد أشهر من اندلاع الأزمة السورية مخططات اعدّها "الاخوان المسلمون" لإطاحة أنظمة دول مجلس التعاون الخليجي، فيما كانت لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف زيارات عدّة لبعض هذه الدول وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وإن كانت العلاقة بين الرياض وموسكو قد فترت او سادتها برودة قبل أن تعود الى حرارتها لدى زيارة رئيس المخابرات السعودية الأمير بند بن سلطان للعاصمة الروسية قبل بضعة اسابيع. ولذا يتوقع المراقبون أن تتحرّك موسكو بالتفاهم مع واشنطن على جبهة أزمات اخرى في المنطقة بغية معالجتها.
وفي هذا المجال هناك تكهنات بحصول تفاهم قريب بين إيران و"الدول الست" في شأن ملفها النووي، وكذلك حصول تحسّن في العلاقات السعودية - الإيرانية، خصوصاً بعدما دعا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني الى الحج بعد أسابيع وقد قبِل الأخير الدعوة.
وبالاضافة الى كلّ هذا، بل قبله، فإنّ "التسوية الكيماوية" الاميركية - الروسية لا بدّ أن تُطلق مؤتمر "جنيف – 2" لإيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية، ولكنّ سوريا قد تشهد في قابل الأيام والأسابيع مزيداً من التصعيد العسكري بين النظام والمعارضة.
أما في لبنان فإنّ أزمة تأليف الحكومة التي تراوح مكانها، فيتكهّن البعض بأنها لن تنفرج قبل القمّة السعودية - الإيرانية المنتظرة على هامش حج روحاني الى مكة المكرمة، علماً أنّ الساحة الداخلية قد مُهِّدَت لتأليف حكومة جامعة، بعد إستبعاد فكرة تأليف "حكومة امر واقع".
https://telegram.me/buratha