تنظر إسرائيل حولها ولا تكاد تصدق نفسها. فالمفاجأة الكبرى في سقوط أنظمة مثل نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك ونسائم «الربيع العربي» أشعرتها بخطر جسيم. ودفع هذا الشعور الكثير من صناع الرأي والساسة في إسرائيل للحديث عن وجوب التكيف مع الواقع الجديد واستباقه بتقديم «تنازلات» لحل المسألة الفلسطينية قبل أن يفوت الأوان. ويمكن القول ان اليمين الإسرائيلي لم يكن يجد ما يرد به على هذا الحديث سوى التزام الصمت أو ترداد العبارة التقليدية بأن «العرب لن يتغيروا» وأنهم سيوفرون لإسرائيل الفرصة لأن لا تقلق.
وما ان انتقل «الربيع العربي» من دائرة التطلع إلى المستقبل والسعي نحو مستقبل أفضل إلى دائرة تصفية الحسابات بانعدام الاتفاق حول رؤية وطريق للتغيير وانخرط البعض في حروب أهلية صريحة أو مستترة حتى عادت الحمرة إلى الوجنتين الإسرائيليتين. فـ«العرب هم العرب»، وهو ما ردده بنيامين نتنياهو أمام زواره الأجانب وما شهد به قادة الاستخبارات الإسرائيلية أمام نظرائهم في الغرب خصوصا. وفي رأيهم فإن ما يجري في المنطقة العربية ليس «ربيعا» ديموقراطيا وإنما هو «خريف إسلامي». والحق أن التيار المركزي في الحركة الإسلامية العربية، وهو الإخوان المسلمون، وفر العديد من المبررات لتأكيد الزعم الإسرائيلي.
ومع ذلك فإن ما يجري في المنطقة العربية لم يعد فقط نوعا من الاختلاف في الرؤى لا بين أنظمة ومعارضين ولا حتى بين المعارضين أنفسهم. لقد غدا واقعا أقل ما يقال فيه انه عملية انتحار جماعي يسيطر عليها افتقار شديد للحكمة وانعدام تام للأهداف المشتركة والأهم غياب مطلق لتقدير المصلحة الوطنية أو القومية متفق عليها. وهكذا بعد أن كان النزاع وجها لتعاطي أمة مع عدوها انتقل لاختلاف الأمة في ما بينها حين ولتصارع داخل كل واحد من شعوبها أحيانا. وبديهي أن الخاسر كان الجميع من دون استثناء.
صحيح أن من يستمع لوسائل الإعلام العربية يضجر من الأحاديث عن الإنجازات التي ينسبها كل من أطراف الصراع إلى نفسه موحيا أن ساعة الحسم وبالتالي النصر لمصلحته قد حانت، وصحيح أن الحديث عن اقتراب ساعة النصر يغدو أطول كلما مرت السنوات على اقتراب تلك الساعة، غير أن الصحيح أكثر أن النصر، كما يبدو، وإذا تحقق، ليس سوى شكل من أشكال الهزيمة. ففي أفضل الأحوال سيجلس المنتصر على أطلال بلد إن لم يكن مثخنا بجراح لن تجعل عمره طويلا.
وما يزيد الطين بلة، أن كل محاولات الحديث عن تسويات بين الأفرقاء العرب داخل كل دولة عربية على حدة وبين الدول العربية صارت تصطدم برفض يكاد يكون تخوينيا وأكثر. وغدا الحديث عن تسوية بين المتصارعين أشد بلاء من الحديث عن تسوية بين ألد الأعداء. ومن الجائز أن مصر، التي هي في نظر كل عربي عاقل قاطرة هذه الأمة نحو العلا أو الهاوية، هي النموذج الأشد إثارة للألم. إذ كان معهودا أن الخلافات الجوهرية تبقى على مستوى النخبة الحاكمة أو المعارضة من دون أن تنزل إلى الشارع أو القواعد. ولكن الخلافات هذه باتت اليوم تقسم بشكل عمودي المجتمع المصري في استقطاب شعبي خطير. وهي تحتاج إلى وقفة جدية من أهل الخبرة والرأي السديد، وما أكثرهم في مصر، لوقف هذا المنحى والعودة إلى طريق الصواب الذي فيه مصلحة مصر وخير العرب أجمعين.
ومن المؤكد أن إخراج مصر من دائرة المنازعات الداخلية وإعادتها إلى دائرة البناء والتقدم والعدل كفيلان بدفع كل المنطقة العربية نحو الدائرة الثانية بدلا من استمرار الانتحار في الدائرة الأولى. ولا أحد غير أبناء مصر يقدر على إخراج مصر من عثرتها الراهنة مثلما لا أحد غير مصر يستطيع إخراج العرب من عثرتهم الحالية.
وأيا يكن الحال، فإن أزمة المجتمعات العربية لم تظهر فقط أثناء أحداث «الربيع العربي» بل كانت بادية للعيان قبل انفجار الوضع بعقد من الزمان على الأقل. وقد أشار تقرير التنمية العربية إلى كل هذه المعضلات وحذر من نتائجها قبل أزمتنا الراهنة بكثير. واليوم يبدو أن ما حدث زاد الأمور تعقيدا بالمعنى الإجمالي والنسبي على حد سواء. ومن الجائز أن القراءة الاقتصادية الحالية المعروضة هنا والتي تبين واقع الدول العربية المحيطة بإسرائيل تحديدا تنبئ بالمزيد من المخاطر لكنها على الأقل ترسم صورة الوضع الراهن.
والقراءة الاقتصادية الإسرائيلية هذه لم توضع لتحذير العرب مما يعيشون وإنما لمطالبة الحكومة الإسرائيلية باستغلال الوضع الراهن لتقليص النفقات العسكرية بقصد إنعاش الاقتصاد بشكل أكبر. وفي إسرائيل أكثر من أي دولة أخرى في العالم بعد الولايات المتحدة يتردد شعار حملة بيل كلينتون الانتخابية ضد جورج بوش الأب: «إنه الاقتصاد يا غبي!». فقد خرج بوش الأب منتصرا من حرب الخليج ضد العراق ولكن التبعات الاقتصادية للحرب أخرجته من الحكم.
ومن المؤكد أيضا أن الأساليب الاقتصادية، إضافة لأساليب القمع السياسي، التي انتهجتها أنظمة الحكم العربية والتي أوصلت المجتمعات العربية إلى الدرك الأسفل وحرمتها من اللحاق بركب التقدم العالمي ليست هي الحل المطلوب للمجتمعات العربية راهنا. كما أن من أوصلوا الوضع نحو الأزمة ليسوا هم القادرون على إخراجنا منها. ولكن من المؤكد أن لا وجود لعصا سحرية تستطيع تغيير الوضع. والمؤكد أكثر أن كل ما نحتاج اليه اليوم هو وقف التدهور واللجوء إلى الحكمة باختيار تسويات وأساليب تدرجية تعيدنا جميعا إلى جادة الصواب حتى مع استمرار الاختلاف.
8/5/13826
https://telegram.me/buratha