جان عزيز
بدأ الغرب يتلمس مشهد المستقبل في سوريا. أو هو يحاول ـــ بالتجربة والخطأ ـــ رسم خريطة طريق لخروجه من الورطة التي زج نفسه فيها هناك. قبل أسابيع أحال الدورين التركي والقطري على التقاعد. بعدها بدأ يعلن بأصواته المباشرة، البريطانية والفرنسية وحتى الأميركية، صعوبة الاستمرار في الأهداف المعلنة سابقاً حيال «الثورة»: لا تسليح، لا منطقة عازلة، لا إسقاط للنظام بالقوة...
وحدها السعودية، التي أفادت من سقوط الحلف الأميركي ـــ الإخواني، لا تزال تحاول الاستمرار في المغامرة السورية. لكن من دون مخاطر فعلية على العائلة المالكة لتلك البلاد وفيها... في هذا الوقت، طرأ مؤشر جديد بالغ الدلالة حول تطور الوضع السوري من وجهة النظر الغربية. تطور لا في السياسة، ولا في العسكر، بل في الشق الإنساني، لكن تفاصيله تكشف الكثير من الخلفيات والتطلعات.
باختصار، كأن قراراً غربياً قد اتُّخذ بالخروج من المأزق السوري، على الطريقة الجزائرية. هناك أيضاً، كان ثمة نظام عسكري مطلع التسعينيات. وكانت ضغوط أوروبية دائمة بضرورة الانتقال إلى مزيد من الديموقراطية. حتى أجريت انتخابات عام 1991، وربح الإسلاميون. صُدم الغرب إزاء النتيجة، حاول رفض التسليم بها، فاندلعت «الحرب الأهلية الجزائرية». على مدى عشرة أعوام، بين عامي 1992 و2002 تقريباً، تحولت بلاد ثورة المليون شهيد إلى بلاد إمارات الإسلاميين وزعماء الجهاديين ومجازر جماعات التكفيريين. 1280 مدنياً قتلوا في مذبحة واحدة في مدينة غليزان في 30 كانون الأول 1998. حتى باتت البلاد على شفير انفجار كبير يجرف معه كل المغرب العربي، وتبلغ تشظياته أوروبا القريبة. عند هذا الحد تبدلت الحسابات الغربية، فبدأ النظام الجزائري يستعيد توازن قواه في حربه مع الإسلاميين، وهو ما ترافق مع إجراءات «إصلاحية» تدريجية داخل النظام، تمرحلت من بن جديد إلى بوتفليقة.
لكن بعد هزيمة الجهاديين في الجزائر، انتقل عدد كبير من مسلحيهم إلى المناطق الجبلية الوعرة في الجانب الشمالي الشرقي من البلاد. هناك في منطقة «المشتى» على سبيل المثال، تحول هؤلاء عصابات قتل وسرقة وقطاع طرق، في منطقة خارجة كلياً عن سيطرة النظام المركزي. لكن موازين القوى كانت قد أصبحت حاسمة بانتصار سلطة العاصمة وهزيمة مشروع الإسلاميين، وبالتالي استحالة عودة الزمن إلى الوراء... عندها جاء «الدور الإنساني» لأوروبا. على مدى أعوام طويلة بدأت المؤسسات الغربية، أوروبية وأميركية، تطلق مشاريعها في منطقة المشتى. تحت عنوان التنمية العامة، كان المطلوب محاولة استيعاب أكبر قسم من إسلاميي الجزائر وإعادة تأهيلهم، أو على الأقل الحد من عدائهم حيال الغرب وحصر «إرهابهم» في النطاق المحلي...
قبل أيام، أُعلن بنحو غير رسمي نقلُ النموذج الجزائري إلى سوريا. المشروع يحمل العنوان نفسه: تنمية محلية، تنشيط المجتمع المدني، مساعدة النازحين، إعادة تأهيل المسلحين، والعمل على إعادة دمج المقاتلين في مجتمعاتهم السابقة، أو الجديدة المستحدثة. تمويل المشروع من قبل مختلف المؤسسات الدولية المعنية، كما من قبل الاتحاد الأوروبي مباشرة. أما الوكيل المباشر، فمصرف ألماني كبير، هو KFW. وللمصادفة، المصرف المذكور ليس إلا «معهد قروض التنمية»، كما يشير اسمه الأصلي باللغة الألمانية، الذي كان قد أنشئ سنة 1948 بعد الحرب العالمية الثانية، كجزء من خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا. وهو مؤسسة ألمانية رسمية بالكامل، بحيث تعود ملكيته بنسبة 80 بالمئة إلى الدولة الألمانية الفدرالية وبنسبة 20 بالمئة إلى الكيانات الفدرالية الألمانية المختلفة. ولتكتمل المصادفة، فهو المصرف نفسه الذي تولى تنفيذ برنامج مماثل في الصومال، عقب فشل واشنطن في مقديشو، وتمهيداً لخروجها من وحول تلك البلاد التي أدخلت إلى قواميس الحروب الأهلية ـــ الخارجية، مفهوم «الصوملة».
أما مركز مشروع التنصل الغربي من مستنقع سوريا، فقد حدد في غازي عينتاب التركية. هناك يرتاح الخبراء الدوليون كما الجهاديون المتقاعدون، قرب حدود فوضاهم. ويستفيد الأتراك تعويضاً عن حلم السلطان أردوغان المخذول. فيتكرر انتفاعهم من أموال المساعدات الدولية، كما فعلوا مع التجربة الكردية إبان الحصار الغربي على العراق، ومعبر إبراهيم الخليل الشهير، الذي تحول مزراباً ذهبياً للأكراد والأتراك معاً. وفي غازي عينتاب يخفف الغربيون من عذاب ضميرهم حيال السوريين، ويبررون لناسهم وللعالم أنهم يدفعون أموالهم للتخفيف من نتائج الحرب السورية...
إنها الهزيمة الغربية المعلنة، مع اعتماد السبل الدولية الرسمية للتهرب من إعلان الهزيمة كما من نتائجها. ولو كان ذلك على حساب ترك جماعات كاملة أمام جحيم صوملة جديدة. تبقى إشارة واحدة حول المدى الزمني المتوقع للكارثة الآتية. فالعقود المطروحة بموجب المشروع ستكون لمدة أربع سنوات، قابلة للتجديد... أكثر من مرة
1/5/13720
https://telegram.me/buratha