في بداية الأزمة السوريّة في منتصف آذار من العام 2011، لعبت تركيا، الدولة القويّة عسكرياً، دوراً بارزاً لصالح المعارضة، لجهة توفير "بيئة حاضنة" لها على أراضيها، وتسهيل عمليّات التدريب والتسليح إنطلاقاً من حدودها، ومعاداة النظام السوري بالتصاريح الإعلاميّة وبالإستعراضات العسكريّة. لكن في الأشهر الماضية، ومع تفاقم المشاكل الداخليّة التركيّة، إن المذهبيّة-العرقيّة أو السياسيّة أو حتى بين "علمانيّين" و"إسلاميّين"، تراجع الحضور التركي في سوريا إلى الحد الأدنى. وفي الوقت الذي كان فيه الوضع هناك يتحوّل من "أزمة نظام" إلى "حرب شرسة" بامتدادات إقليمية ودوليّة، كان نفوذ قطر، الدولة الخليجيّة المتمكّنة مالياً، يزداد عبر تمويل الحركات الإسلاميّة المتشدّدة التي تميّزت بشراستها على أرض المعركة. وبهدف تعويض ضعفها العسكري، حاولت قطر مدّ نفوذها السياسي إلى مصر القويّة من الناحية العسكريّة، عبر دعم "حكم الإخوان" هناك بثمانية مليارات دولار، ودفعه إلى معاداة نظام الرئيس بشّار الأسد. لكن حلم النفوذ الإقليمي لقطر، عبر أموال عائدات النفط وعبر التلويح بالذراع العسكريّة للجيش المصري، تراجع بدوره، بعد "إسقاط" نظام الرئيس محمد مرسي في القاهرة، وإثر "الهجمة الدفاعيّة" من قبل الأردن والدول الخليجيّة الأخرى، ومنها الكويت ودولة الإمارات العربيّة المتحدة والمملكة العربيّة السعوديّة، لمنع تمدّد نفوذ "الإسلاميّين" إلى داخل هذه الدول، وكذلك نتيجة "الرفض الدولي" لمسألة دعم وتمويل وتسليح المنظّمات الإسلاميّة المتشدّدة في سوريا، باعتبار أنّ أغلبيّتها تعادي الدول الغربيّة، وبعضها مرتبط مباشرة بتنظيم "القاعدة" الإرهابي.
وفي الوقت الذي كان فيه نفوذ كل من تركيا وقطر يتقوقع، كان نفوذ إيران، الدولة القويّة عسكرياً ومالياً (على الرغم من صعوبات الحصار الإقتصادي المفروض عليها) يزداد ويتوسّع، إن بشكل مباشر عبر مد النظام السوري بالأسلحة والذخائر، إضافة إلى إيفاد خبراء عسكريّين من إيران مع الفرق الأمنيّة التي تحميهم، أو بشكل غير مباشر عبر "المونة" بإرسال مقاتلي "حزب الله" من لبنان، وبعض السرايا القتاليّة المكفولة الولاء من العراق، إلى ساحات القتال في الداخل السوري. وأمام هذا التبدّل في موازين القوى الإقليمية، لجهة تراجع أو سقوط النفوذين التركي والقطري لصالح المعارضة، في مقابل تقدّم النفوذ الإيراني لصالح النظام، باتت المعارضة السوريّة المسلّحة في وضع دقيق ميدانياً. أكثر من ذلك، ذهبت كل وعود التسليح مع الريح، نتيجة بروز العديد من الأصوات الداخليّة المعارضة، إن في بريطانيا التي يحاول رئيس حكومتها ديفيد كاميرون، أن يكون "رأس حربة" أوروبيّة ضدّ النظام السوري، أو في الولايات المتحدة الأميركية حيث تتردّد إدارة الرئيس باراك أوباما في القيام بأيّ خطوة من هذا النوع، نتيجة تحذيرات مسؤولي الأمن القومي الأميركي من خطر إرتداد هذه الأسلحة الموعودة على الغرب عموماً والأميركيّين خصوصاً!
وممّا تقدّم، "بصيص الأمل" شبه الوحيد للمعارضة السوريّة حالياً يتمثّل في موقف المملكة العربيّة السعوديّة، الدولة القويّة مالياً وعسكرياً، والتي لطالما لعبت أدواراً إقليميّة حاسمة، والتي يُنتظر أن تحمل الفترة المقبلة تدخّلاً أكبر من قبلها بالأزمة السورية. لذلك، وضع الرئيس المنتخب حديثاً للإئتلاف السوري المعارض، أحمد العاصي الجربا، كل ثقله، لرفع مستوى تدخّل المملكة لصالح المعارضة السوريّة. والجربا الذي يتمتّع بروابط صداقة شخصيّة مع العديد من المسؤولين السعوديّين، ومنهم الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز آل سعود، الأمين العام لمجلس الأمن الوطني السعودي، ورئيس جهاز الإستخبارات العامة في المملكة، يلعب حالياً على وتر خصومته العلنيّة المعروفة مع "جبهة النصرة" ومع غيرها من التنظيمات الإسلاميّة المتشدّدة، في محاولة لإقناع المسؤولين السعوديّين، بأنّ أيّ سلاح أو تمويل يُوَجَّه إلى المعارضة السوريّة، لن يصل إلا إلى وحدات "الجيش السوري الحرّ". ويواصل "جربا" حالياً العمل على خطّين: الأوّل سياسي-دبلوماسي مع السعوديّة لمحاولة الحصول على مساعدات مالية وعسكريّة عاجلة، وكذلك لمحاولة إقناع المملكة بممارسة نفوذها على الدول "الصديقة" لرفع حظرها على تسليح المعارضة. والخط الثاني يتمثّل في العمل بشكل كثيف على توحيد الضبّاط والجنود السوريّين الذين إنشقّوا عن الجيش النظامي، تحت هيكليّة عسكريّة هرميّة موحّدة ومنظّمة، تعمل بإشرافه. أكثر من ذلك، يحاول "رئيس الإئتلاف السوري" المعارض حالياً، إقناع الضبّاط والجنود السوريّين الذين فرّوا من سوريا إلى دول الجوار، بالعودة إلى الداخل السوري عبر المناطق الحدوديّة الي تسيطر عليها المعارضة، وذلك بهدف تقوية "الجيش السوري الحر" بوجه المسلّحين "الإسلاميّين"، لاقتناعه أنّ هذا الخيار هو الطريق الوحيد المتاح للإستفادة من دعم عربي وغربي جدّي، بالسلاح والمال.
فهل تستجيب السعوديّة لطلب القيادة السياسيّة للمعارضة السوريّة، فتعوّض "الغياب" التركي و"التراجع" القطري، وتُعبّد الطريق أمام وصول مساعدات عسكريّة غربيّة فعليّة، عبر مساعدة جربا على تنظيم صفوف "الجيش الحرّ"، أم أنّ الخط التراجعي للمعارضة السوريّة سيبقى قائماً في المرحلة المقبلة، في ظلّ ثبات الدعم الإقليمي ممثّلاً بإيران بشكل خاص، والدولي ممثلاً بروسيا بشكل أساسي، للنظام السوري؟
11/5/13720
https://telegram.me/buratha