مصطفى الحاج علي
تقاسم المشهد المصريّ جملة من الوقائع الدّاخليّة والخارجيّة، أبرزها:أوّلاً؛ بدا أنّ الوضع المصريّ دخل مرحلة ما يعرف بصراع الشّرعيّات: الإخوان تمترسوا وراء الشّرعيّة الانتخابيّة، الّتي جاءت بالرّئيس المعزول محمّد مرسي، في الوقت الّذي تمترس فيه الجيش وقوى المعارضة المشهد وراء المشروعيّة الشّعبيّة، حيث برّروا قرار العزل بأنّه مطلب عشرات الملايين من الشّعب المصريّ الّذين ملأوا السّاحات. في الخلاصة بدا الصّراع في أحد وجوهه بين الشّرعيّة القانونيّة والمشروعيّة الشّعبيّة، ما يعني دفع الأمور إلى الحدّ الأقصى، خصوصًا في ظلّ تسجيل العديد من مظاهر العنف، وفي ظلّ إصرار الإخوان على البقاء في السّاحات، ورفض أيّ حلّ لا يؤدّي إلى العودة عن قرار عزل مرسيّ.ثانياً؛ أدار الجيش قرار العزل بنحو يصعب معه القول إنّه انقلاب، كما يصعب معه القول إنّه ليس بانقلاب. فمن جهة الجيش هو الّذي اتّخذ القرار، ومن جهة أخرى هو استند في قراره إلى الملايين المحتشدة في الشّوارع، كما سارع إلى تسليم مقاليد الأمور إلى شخصيّات مدنيّة، وانسحب إلى ما وراء السّتار ليقول إنّه لا طمع له في استلام السّلطة، وإنّ جلّ ما قام به هو استجابة لإرادة النّاس.ثالثًا؛ لم يظهر الجيش ولا ائتلاف قوى المعارضة أيّ حرص على الانفراد بالسّلطة، بل سارعوا إلى تبنّي خطاب جامع داعياً الإخوان إلى أن يكونوا جزءًا من الحلّ بدلاً من أن يكونوا جزءًا من المشكلة.رابعًا؛ ظهر الإخوان للوهلة الأولى بمظهر من لم يستوعب ما جرى، وكأنّهم فوجئوا به إلى الحدّ الأقصى بالرّغم من وجود معطيات عديدة كانت تحذّرهم من أنّ الأمور واصلة إلى المواجهة، وأنّه لا بدّ من اتّخاذ خطوات استيعابيّة من شأنها أن تقطع الطّريق على أيّ تطوّر سلبيّ ـ كما حدث ـ.لم يكن سهلاً على الإخوان أن يجدوا حلمًا عمره 86 سنة يتهاوى فجأة، الأمر الّذي أفقدهم كما يبدو توازنهم على الأقلّ في الأيّام الأولى دافعًا إيّاهم إلى تبنّي مواقف عالية السّقف وحادّة ومتشنّجة يحضر فيها التّحريض والاستعداد للقتال ورفض أيّ عمليّة تفاوض معقولة.خامسًا؛ سرعان ما تبيّن للإخوان أنّ رهانهم على تدخّل أميركيّ أو غربيّ لمصلحتهم لم يكن في محلّه، حيث تطوّر الموقف الأميركيّ من محاولات إيجاد مخرج يحفظ لهم ماء الوجه، إلى محاولة الوقوف على الحياد، إلى التّسليم بما جرى، إلى دعوة الإخوان إلى وقف العنف والانخراط في العمليّة السّياسيّة...سادسًا؛ دخلت دول الخليج، وعلى رأسها النّظام السّعوديّ، بسرعة وقوّة على مجرى الحدث المصريّ، الذي أعلن صراحةً نيّته عزل مرسي، وكاشفًا عن فرحته بسقوط الإخوان ـ الخصم المخيف ـ ومعلنًا تبنّيه لما جرى وتوفير الدّعم السّياسيّ والماليّ اللازمين له.سابعًا؛ وحدها تركيّا ـ أردوغان أظهرت امتعاضها واعتراضها الشّديد، لدرجة دفعت العسكر إلى استدعاء السّفير التّركيّ لإبلاغه رفضه القاطع للتّدخّل السّافر في الشّؤون المصريّة.ثامنًا؛ سارع تحالف الجيش وائتلاف قوى المعارضة إلى تثبيت خارطة الطّريق الخاصّة بالمرحلة الانتقاليّة عبر مجموعة من الخطوات: تعيين رئيس للمرحلة الانتقاليّة، تكليف رئيس جديد لتشكيل حكومة انتقاليّة يغلب عليها طابع التّكنوقراط للإشعار بأنّها حكومة حياديّة، الإعلان أنّ الخطوة الأولى ستكون تعديل الدّستور، ومن ثمّ إجراء الإنتاخابات النّيابيّة فالرّئاسيّة، في هذا السّياق وجّه رئيس الحكومة الجديد الدّعوة إلى الإخوان للمشاركة في الحكومة، كما بدأنا نسمع كلامًا عن وجود مفاوضات تحت الطّاولة تستند إلى مجموعة شروط.بناءً عليه، يمكن تسجيل الخلاصات التّالية:أوّلاً؛ يبدو أنّنا أمام بداية مسار تفاوضيّ داخليّ بين الإخوان وخصومهم. وما يهمّ الإخوان بالدّرجة الأولى هو ضمان حفظ وجودهم كتنظيم، لعدم تكرار التّجارب السّابقة معهم، إضافة إلى حفظ حقّهم في الممارسة السّياسيّة.وبالتّأكيد سيكون الإخوان معنيّين بالتّفاوض على موقعهم ودورهم في أيّ تسوية داخليّة لاحقة.لا يعني هذا أنّ الأمور ستكون سهلة، بل في الغلب الأعمّ ستكون معقّدة، لكن في الحدّ الأدنى نحن أمام عودة للتّعاطي الواقعيّ والعقلانيّ.ثانيًا؛ إنّ الواقع الجديد في طريقه إلى تثبيت نفسه، ولا نبدو بالتّالي أمام فرصة لإعادة عقارب السّاعة إلى الوراء، خصوصًا في ظلّ التّغيّرات الّتي شهدها الموقفان الدّوليّ والإقليميّ.ثالثًا؛ إنّ الغرب عمومًا، والولايات المتّحدة تحديدًا، الّتي بنت حساباتها على أنّ الإسلام السّياسيّ هو من ستكون له اليدّ الطّولى، ولا بدّ من التّعاطي معه لحفظ مصالحهم، لا يمانع من التّعاطي مع أيّ واقع جديد ما دامت هذه المصالح محفوظة أيضًا.رابعًا؛ بالرّغم من التّقاطعات الّتي تجمع بين السّعوديّة وتركيّا في المنطقة عمومًا، خصوصًا في ما يتعلّق بالموقف من إيران وسوريا، إلاّ أنّ التّباينات بينهما كبيرة، فالنّظام السّعوديّ طالما نظر إلى الإخوان كمؤشّر خطر، وكان يرى إلى تحالف مصر ـ الإخوان مع تركيّا ـ أردوغان كخطر استراتيجيّ لجهة إيجاد تشكيل إقليميّ يحاصر النّموذج الوهّابيّ ـ السّعوديّ ويضعف دور الرّياض الإقليميّ. في حين أنّ تركيّا كانت تتطلّع إلى صعود الإسلام الإخوانيّ في المنطقة ـ وخصوصًا في مصر ـ وإمكان استلامه للسّلطة في سوريّا كمفتاح جيواستراتيجيّ لدخولها إلى المنطقة والتّحكّم بها. من هنا كان طبيعيًّا أن تنظر الرّياض بعين الفرح لسقوط الإخوان في مصر، ولا سيّما أنّه جاء في لحظة إقليميّة بدا فيها أنّ الرّياض عادت لتمسك بيديها ملفّات المنطقة الأساسيّة، وفي طليعتها الملفّ السّوريّ واللّبنانيّ، وذلك بعد انتزاعها من يد قطر.هل نحن أمام مرحلة من خلط إقليميّ عمومًا للأوراق، وإعادة نظر في الحسابات؟ هذا ما يبدو.خامسًا؛ لا يبدو أنّ تداعيات ما جرى للإخوان ستقف عند حدود الجغرافيا المصريّة، بل ستكون لها تأثيرات ليست بالقليلة خصوصًا على البلدان الّتي وصل فيها الإخوان إلى السّلطة كتونس، أو تلك الّتي كانوا يتهيّأون وينتظرون الفرصة لتحقيق هذا الهدف. والأمر عينه ينطبق على حركة حماس، الّتي لا شكّ هي اليوم في موقف صعب.خلاصة القول، ما زال الحدث المصريّ يفرض نفسه، ويستدعي العديد من الأسئلة والمتابعة لا سيّما في المرحلة المقبلة.