مصادر معارضة في البلدة تؤكد أنه لم يسقط خلال المواجهة سوى 17 شهيدا من الأبرياء، وأن القتلى الباقين كانوا من المسلحين الغرباء عن المنطقة.
منذ أيام يجري الحديث عن "مجزرة" اقترفتها "قوات النظام" في ضاحية "جديدة الفضل"، المعروفة أيضا باسم "جديدة عرطوز" ، والتي تقع على بعد حوالي 15 كم إلى الجنوب الغربي من دمشق. وهناك إجماع على أنها"المجزرة" الأكبر منذ بداية الأزمة السورية قبل عامين، لكن الخلاف يكمن في عدد القتلى وتفاصيل ما جرى. ففيما تحدث ما يسمى بـ"ألمرصد السوري لحقوق الإنسان" عن حوالي 80 قتيلا، قالت "تنسيقية جديدة عرطوز" إنها وثقت 127 اسما للقتلى بالإضافة إلى 28 جثة عثر عليها لاحقا، إذ لا تزال عملية البحث مستمرة عن الجثث وسط زواريب المنطقة وبين أنقاض بعض المنازل التي دمرت على رؤوس ساكنيها، الذين سنتعرف عليهم بعد قليل. أما "لجان التنسيق المحلية" فتحدثت عن 476 قتيلا، وهو الرقم الأقرب إلى الرقم الحقيقي كما سنرى لاحقا.
لكن، وبخلاف جميع "المجازر" التي حصلت حتى الآن، ظلت هذه "المجزرة" الأخيرة دون أشرطة وصور مهمة ومتميزة نوعيا من شأنها أن توثق الحدث بشكل جيد، علما بأن المسلحين ومناصريهم لا يتركون شاردة ولا واردة دون تصوير بضع مرات!! وما بين أيدينا من أشرطة وصور لا يعدو أن يكون شريطا واحدا مجزءا إلى ثلاثة أجزاء لا يتجاوز طولها معا أكثر من دقيقة واحدة ونصف الدقيقة. عدا ذلك ليس هناك إلا الأخبار المتداولة على عواهنها والصور الجامدة التي لا تصلح لتقديم صورة دقيقة لما حصل. فهناك، كالعادة، حديث عن قتل بالفؤوس والسواطير وحرق جثث واغتصابات وقتل للنساء والأطفال، دون أن يكون هناك دليل واحد أو صورة واحدة توثق ذلك، ودون أن يظهر أي أثر لذلك على صور الجثث المتوفرة!
فما الذي جرى؟
بعد ثلاثة أيام من التدقيق والمراجعة، توصلنا إلى ما يمكن وصفه بأنه الرواية الأقرب إلى ما حصل، استنادا إلى خمسة مصادر من المنطقة ومحيطها. علما بأن المصادر الخمسة هم ممن يمكن وصفهم بأنهم "مناهضون مستقلون" للنظام ولا ينتمون إلى أية جهة.
بدأت القصة يوم الإثنين الماضي ، الخامس عشر من الشهر الجاري، أي بالتزامن مع اقتراب نهاية المواجهات في ضاحية "داريا" الملاصقة لها، والتي تمكن الجيش من تطهيرها على نحو كامل تقريبا من المسلحين بعد أكثر من خمسة أشهر من المعارك التي حولت قسما كبيرا من المدينة إلى أنقاض. يومها، يقول أحد مصادر "الحقيقة" ممن يسكنون في شارع "السكة" في بلدة "الجديدة"، وجه الجيش أمرا للأهالي، لاسيما في المناطق الغربية من البلدة، تقضي بالتزام منازلهم وعدم الخروج منها، تحت طائلة إطلاق النار على كل من يغادر منزله.
قبل ذلك، كان الجيش شدد الحصار على البلدة من جميع الجهات، ومنع الدخول إليها والخروج منها إلا بإذن خاص من الحواجز العسكرية على مداخل البلدة، وبشكل خاص"حاجز الفاعور" على طريق دمشق. ويقول المصدر"كان لدينا إحساس بأن شيئا كبيرا سيقع، لكننا لم نكن نعرف ما هو. غير أن الحركات المريبة في البلدة، لاسيما الجهة الغربية والشمالية الغربية منها (الجزء المعروف بـ"جديدة الفضل")، المواجهة لمعسكر لشهيد يوسف العظمة ، كانت تنذر بمواجهة كبرى. فقد سرت معلومات بين الأهالي تفيد أن مئات المسلحين أصبحوا داخلها، وقد احتلوا عشرات المنازل ، لاسيما في المناطق المشار إليها، فضلا عن المنطقة القريبة من المستوصف".
المعلومات المتوفرة، والمؤكدة، هو أن الجيش كان حصل على معلومات تفيد بأن مئات المسلحين بدأوا يتحشدون في البلدة تمهيدا لإعلان "تحريرها" كما اعتادوا أن يفعلوا دائما. وأشارت المعلومات إلى أن قسما من هؤلاء هم من بقايا المسلحين الذي فروا من داريا خلال الأيام الأخيرة. وكان المسلحون قرروا التجمع في "جديدة الفضل" والسيطرة عليها ثم شن هجوم شامل على معسكر الشهيد يوسف العظمة و"الفوج 100" في الحرس الجمهوري الذي تنتشر وحداته في محيط المنطقة. وقد امتنع الجيش عن إطلاق النار طيلة تلك الأيام، منتظرا تحشد أكبر عدد من المسلحين بهدف نصيب كمين محكم لهم، حتى أن المئات من مسلحي "جبهة النصرة" و"لواء الفرقان" المتحالف معها تقدموا من جهة "خان الشيح" ودخلوا البلدة دون أن يتعرضوا لطلقة واحدة، وهو ما أغراهم باستقدام المزيد من المسلحين، دون أن ينتبهوا إلى أن كمينا محكما يجري نصبه لهم. وفي غضون ذلك ، كان الجيش قد نشر أكثر من 700 قناص في التلال المشرفة على المنطقة. واعتبارا من يوم الإثنين 15 نيسان / أبريل، أي قبل يومين تقريبا من ساعة الصفر التي حددها المسلحون لإعلان "تحرير" البلدة ومهاجمة المعسكرات، باشرت الوحدات العسكرية هجوما استباقيا على أماكن تمركز المسلحين ، مستخدمة مختلف صنوف الأسلحة، باستثناء الجوية التي لم تتدخل هذه المرة. لكن الدور الأساسي في المعركة كان لسلاح القناصات التي كان من نصيبها اصطياد القسم الأكبر من المسلحين، وهو ما تؤكده طبيعة الإصابات في الصور المتوفرة للجثث التي كانت تملأ الشوارع والأزقة. وخلال أربعة أيام من المواجهات، سقط قرابة 600 مسلح قتلى، بينما فر الباقي باتجاه"خان الشيح" و"دروشا" و"الدرخبية"والمناطق المجاورة الأخرى، علما بأن أحد المصادر يستبعد أن يكون أي من المسلحين تمكن من الفرار، بالنظر لأن الحصار كان محكما تماما من جميع الجهات، بخلاف ما حصل في مناطق أخرى سابقا، حيث كانت السلطة تترك منافذ للمسلحين كي يخرجوا منها.
أحد شهود العيان وصف ما رآه في المنطقة الممتدة من شارع السكة حتى المستوصف بأنه كان"بيدرا من القتلى" ، حتى أنه استطاع أن يعد مع زوجته من شرفة منزله المطلة على الشارع، وقبل أن يغادر منزله، أكثر من سبعين جثة من المسلحين، مؤكدا على أن جميع القتلى الذين شوهدوا في المنطقة المشار إليها"لم يكونوا من أبناء الجديدة". ويدلل على ذلك بأنه ، ورغم مرور أربعة أيام على انتهاء المعركة، لم يعقد مجلس عزاء واحد في أي منزل من منازلها. وقال مصدر آخر من "حزب الشعب الديمقراطي"( حزب رياض الترك) إن ما تأكد لديه من مصادر مختلفة في البلدة هو أن عدد القتلى "فاق، وعلى نحو مؤكد، الـ550 قتيلا، رغم أن جهة أخرى في البلدة قدرت العدد بأكثر من 600 قتيل". لكن الأهم في ذلك هو أن عدد المدنيين الأبرياء الذي راحوا ضحية العملية، طبقا للمصدر والمصادر الأخرى، لم يتجاوز 17 شهيدا في الحد الأقصى، منهم ثلاث نساء وطفل. وكانت اثتنان منهن سقطتا بنيران قناص في اليوم الأول من المواجهة ، نتيجة خرقهما قرار حظر التجول في البلدة، بينما سقط قسم من هؤلاء في منزل عائلة التركماني الذي استخدم المسلحون أهله دروعا بشرية، وفق ما يقوله أحد المصادر من أبناء الحي.
المصادر أكدت على أن المسلحين أقدموا على حرق قرابة خمسين جثة خلال اليومين الأولين، وهو ما كانوا قاموا به ، كما أصبح ثابتا وموثقا، في أكثر من منطقة في سوريا، لاسيما في ريف حمص وإدلب. علما بأن هناك جثثا كثيرة احترقت بفعل نوعية الذخيرة المستخدمة في قصف مواقع المسلحين. وأكدت هذه المصادر أن الوضع في البلدة عاد إلى طبيعته منذ يومين كما لو أنه لم يحصل فيها أي شيء، بحيث أن الأهالي استأنفوا حياتهم الطبيعية، بما في ذلك الجلوس في المقاهي. كما أن الحصار رفع عن البلدة وأصبح بإمكان الأهالي التحرك إلى دمشق وغيرها بحرية، في حين عادت الخدمات الهاتفية والتيار الكهربائي إلى المنطقة، وإن ليس بشكل كامل ، بفعل تضرر شبكة الاتصالات الأرضية والشبكة الكهربائية.
يشار إلى أن البلدة تضم خليطا من الأقوام والطوائف وسكانا من مختلف المحافظات السورية، ينتمي قسم كبير منهم إلى الفئات الوسطى. كما أن قسما كبيرا منهم هم من أهالي دمشق الأصليين الذين باعوا منازلهم في دمشق واسستقروا في البلدة (قسمها الشرقي خصوصا)، مستفيدين من الفارق الكبير في أسعار العقارات. إلا أن نسبة النازحين من أبناء الجولان المحتل تبقى الأعلى بين سكان المنطقة وأطرافها(لاسيما القسم الغربي منها)، فضلا عن المهجرين من أبناء المناطق المنكوبة الذين نزحوا إليها مؤخرا، لاسيما "الحجر"الأسود" و"التضامن" و"داريا" و"المعضمية"وبلدة "الذيابية" في الغوطة الشرقية.
2/5/13429
https://telegram.me/buratha