في الوقت الذي أعلنت فيه وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي أن متوسط دخل الفرد السنوي في العراق بلغ أربعة آلاف دولار، وبالتزامن مع إقرار البرلمان لموازنة العام 2013 والبالغة 138 تريليون دينار، ما زالت هناك الكثير من العوائل تعتاش على مبالغ زهيدة تتحصل عليها بشق الأنفس.
وعلى الرغم من أن العملة العراقية هي الدينار، إلا أن الفئة النقدية الأدنى قيمة المستعملة الآن هي 250 دينار، فئة بالرغم من ضآلتها إلا أنها ما زالت لدى عدد غير قليل من العراقيين تعد رقماً صعباً لا يمكن التفريط به إلا للضرورات.
ويقول احمد مهدي بهذا الصدد، لـ"السومرية نيوز" إن شقيقته التي تسكن في إحدى مناطق أطراف بغداد الشمالية "تعتاش على فوائد مبلغ الـ250 دينار".
ويوضح مهدي "شقيقتي تسكن منطقة سبع البور، ولديها محل تبيع فيه الملابس المستعملة، تأتي كل أسبوع أو أسبوعين ونجمع لها الملابس والأشياء المنزلية الأخرى التي لا نحتاجها، لتأخذها معها وتبيعها على سكان منطقتها بمبلغ 250 دينار أو 500 دينار".
ويستدرك مهدي "الوضع المعاشي لشقيقتي متوسط، افتتحت محلها لتحسين وضعهم الاقتصادي لكن بيع الملابس لم يكن ضمن خططها"، مضيفاً "شقيقتي أرادت مساعدة أهالي المنطقة الذين لا تسمح لهم مدخولاتهم المنخفضة جداً والمنعدمة للكثير منهم بشراء ملابس جديدة أو ملابس (البالة) التي تعد باهظة الثمن بالنسبة لهم"، على حد قوله.
في العراق وفي السنوات الأخيرة تحديداً ثمة سكائر يصل سعر علبتها إلى خمسة آلاف دينار، أي ما يعادل 250 دينار للسيكارة الواحدة، في حين يوجد في بعض مناطق بغداد محال تبيع البنطال أو القميص الرجالي والنسائي بهذا السعر، وهي بالتأكيد ملابس مستعملة حد الاستهلاك.
ويضيف مهدي "بناطيلي وقمصاني وغيرها من الملابس التي لم أعد أرغب بارتدائها أهبها لشقيقتي لكي تبيعها على أناس ليس لديهم الإمكانية المالية لشراء ملابس جديدة، ولا حتى الملابس التي تباع في سوق الملابس المستعملة (البالة)، لكون أسعار هذه الملابس تدخل في خانة الآلاف أي خمسة آلاف دينار فما فوق".
ويتابع بالقول "حين أسمع أن طالباً جامعياً ليس لديه إمكانية شراء ملابس جديدة لربما لمرة واحدة في السنة ربما، أو أن ملابسي التي زهدتها هناك من هم بحاجة إليها، أشعر بخيبة أمل كبيرة، وكأن العراقيين قدموا كل هذه التضحيات من أجل لا شيء".
مهدي وهو موظف في هيئة اجتثاث البعث التي تصنف رواتب منتسبيها ضمن الرواتب فوق المتوسطة، ينبه إلى أنه بدأ ينظر إلى الأوضاع الاقتصادية في العراق من زاوية أخرى لم تكن تخطر له على بال.
ويوضح مهدي "كنا نأمل تغيراً حقيقاً بعد زوال النظام المباد، لكن ما حدث هو تغير ظاهري، فما زال الملايين مسحوقين تحت خط الفقر والرواتب التي لم نكن نحلم بها قبل العام 2003 أصبحت نقمة على هؤلاء الملايين فبسببها ترتفع الأسعار ويكثر الفقراء".
وكانت وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي، أعلنت الشهر الجاري، أن متوسط دخل الفرد السنوي في العراق وصل إلى نحو أربعة آلاف دولار في العام 2012، وعدت هذا الارتفاع مؤشر على النمو الاقتصادي للبلد وتحسن وضع المواطن العراقي الذي كان معدل دخله السنوي لا يتجاوز 100 دولار عام 2004، وهو ما أثار موجة من الانتقادات وجهت للوزارة من قبل برلمانيون ومختصون بالشأن الاقتصادي.
"السومرية نيوز" زارت منطقة سبع البور، وحاولت إجراء لقاءات مع زبائن أم عادل شقيقة أحمد مهدي، لكن معظمهم رفضوا ذلك باستثناء شاب في الخامسة والعشرين من عمره اشترطت عدم الإفصاح عن اسمه لإجراء اللقاء.
وقال الشاب بلهجة منفعلة: "لا عمل ليَ سوى العمالة -عامل بناء- التي تجمع الأمي بخريج الكلية، إلا أن أعمال البناء نادرة في منطقتنا التي تعد من المناطق الفقيرة، أحياناً لا أعمل لمدة شهر وأكثر لا في منطقتنا ولا في بغداد التي من الصعب الحصول على فرصة عمل فيها".
ويتابع وعلى وجهه ارتسمت ملامح الانكسار "هل تصدق أن خط هاتفي توقف لمرتين لتأخير بتعبئته بالرصيد، وأنا لا استخدم الهاتف بطراً بل لكي يتصل بيّ من لديه أعمال بناء أو رفع أنقاض أو غير ذلك".
أم عادل بدورها سردت قصص عدة عن الأوضاع المأساوية التي تعيشها عوائل ليست بالقليلة في المنطقة، وذكرت في حديثها لـ"السومرية نيوز"، إن "فتاة في الخامسة عشرة من عمرها مخطوبة واقترب موعد زفافها، جاءتني لشراء ملابس منزلية خاصة بالعرائس وهي غير متوفرة لديّ".
وتضيف "بالتأكيد ستضطر هذه العروس إلى الاستغناء عن شراء ملابس يوم لا يتكرر في حياتها أو الذهاب إلى سوق البالات في الكاظمية لشراء قطعة أو اثنتين ما يعني مبلغ يتراوح بين 15 - 20 ألف دينار، مبلغ قد يراه البعض ضئيل لكنه كبير جداً بالنسبة للكثير من سكان منطقتنا".
ولا يخفى التحسن الكبير الذي طرأ على رواتب الموظفين، إلا أن هذا التحسن انعكس سلباً على الطبقات الفقيرة وذوي الدخل المحدود، إذ كلما أعلنت الحكومة أو البرلمان عن زيادة في رواتب الموظفين أو المتقاعدين، أو عن إطلاق القروض المصرفية، شهدت الأسواق المحلية قفزة في أسعار السلع والبضائع، تأتي على أي تحسن في أوضاع الطبقات المسحوقة.
وكانت وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي، أعلنت في حزيران 2012، ارتفاع متوسط دخل الفرد السنوي في العراق إلى نحو أربعة آلاف دولار في العام 2011.
عضو اللجنة المالية البرلمانية هيثم الجبوري، يرى في حديثه لـ"السومرية نيوز"، أن "هناك لجنة تضم عدداً من النواب وممثلين عن الحكومة، مكلفة بمتابعة تنفيذ إستراتيجية الحد من الفقر، وقد طلبت اللجنة في العام 2012 تخصيص مبلغ تريليوني دينار لتنفيذ هذه الإستراتيجية".
ويبين الجبوري أن "خصصت في العام مبلغ 450 مليار دينار، ومبلغ 750 مليار دينار للعام الحالي، لمنحها كقروض للعاطلين عن العمل لإنشاء مشاريع صغيرة أو متوسطة"، مضيفاً أن "هذه المبالغ توزع بين المحافظات بحسب الكثافة السكانية".
ويتابع أن "البرلمان منح الحكومة صلاحية زيادة رواتب المشمولين شبكة الحماية الاجتماعية من 50 ألف دينار إلى 100 ألف دينار شهرياً، للعام الحالي".
يذكر أن الحكومة العراقية أطلقت في كانون الثاني 2010، إستراتيجية التخفيف من الفقراء التي تبدأ من 2010 وتنتهي في 2014، وألزمت الحكومة في حينها جميع الوزارات تنفيذ توصيات ومقررات هذه الإستراتيجية وإدراجها ضمن خططها الخمسية، على أن تستمد تخصيصاتها من ميزانيات هذه الوزارات.
وبشأن الشروط والضمانات المفروضة للحصول على القروض الميسرة، يوضح عضو اللجنة المالية البرلمانية أن "هذه إجراءات تنفيذية وهي من صلاحية الحكومة، كما أن الدولة لابد أن تضمن استرداد أموالهم للإفادة منها مرة أخرى وتدويرها في بعض القطاعات، لذلك تضطر إلى وضع إجراءات رادعة وشروط متعددة وكفلاء حتى تضمن استرجاع أموالها".
وعن تواصل النواب ومتابعتهم لمنح القروض والشمول بشبكة الحماية الاجتماعية، يشير الجبوري إلى إن "القروض وترشيح أسماء المشمولين بالرعاية الاجتماعية يتم عن طريق المجالس المحلية في الأقضية والنواحي، وبعض النواب يتابعون هذه الآلية ويتواصلون مع تلك المجالس أو المواطنين عن طريق مكاتبهم الموجودة في محافظاتهم، لكن هناك نواب مقصرين في هذا الجانب".
وعن رأيه بما أعلنته وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي بأن متوسط دخل الفرد العراقي السنوي بلغ أربعة آلاف دولار، يقول الجبوري: "هذا صحيح وهو أمر تعتمد الوزارة في تقاريرها إذ تقوم باحتساب الموازنة الكلية وتقسيمها على عدد السكان فتظهر النتيجة كمعدل دخل للفرد العراقي"، مستدركاً "وهذه المبالغ تصل للمواطنين لكن هل توزع بعدالة اجتماعية، كلا هذا ما لا يحدث".
وكان وزير التخطيط والتعاون الإنمائي علي بابان، أعلن في كانون الثاني 2010، أن إستراتيجية التخفيف من الفقر تركّز على تقليص التفاوت بين النساء والرجال الفقراء، وتسعى إلى تخفيض عدد الفقراء من سبعة ملايين إلى خمسة ملايين فقير، أي من 23% إلى 16% سنة 2014، وكذلك تخفيض نسبة الأمية من 28% إلى 14%.
الناطق باسم وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي عبد الزهرة الهنداوي، يقول في حديثه لـ"السومرية نيوز": إن "الوزارة عندما تتحدث عن مستوى دخل الفرد، ذلك لا يعني بالضرورة أن جميع العراقيين دخولهم السنوية تبلغ أربعة آلاف دولار، إنما هو مقدار الموازنة العامة للدولة وتقسيمها على عدد السكان فيظهر هذا الرقم وقد يكون دخل غير منظور للفرد".
ويتابع الهنداوي "نحن نعمل على وفق الإستراتيجية الوطنية للتخفيف من الفقر في العراق، التي انطلقت في العام 2010 وكانت سنة تحضيرية لتهيئة الأرضية للعمل، وبدأ العمل الفعلية بالإستراتيجية مطلع العام 2011".
ويبين "بدأنا بإعداد بيانات تفصيلية عن خارطة الفقر في العراق وأكثر الأماكن فقراً"، لافتاً إلى أن "الفقر له أبعاد تشمل الحالة المادية والسكن والتعليم والصحة والغذاء ووضع المرأة وضرورة تمكينها في المجتمع".
ولا ينفي الهنداوي وجود عوائل تعيش تحت خط الفقر، مبيناً "العوائل المعدمة داخلة في حسابات الإستراتيجية الوطنية للتخفيف من الفقر هذا من جانب، ومن جانب آخر هناك أيضاً في إطار الإستراتيجية إيجاد فرص عمل للفقراء من خلال تشغيلهم أو منحهم قروض وسلف ميسرة لتحسين أوضاعهم المالية".
وبخصوص شروط الحصول على القروض، يقو الهنداوي "هناك خطة عمل الآن بين وزارتي التخطيط والعمل والضمان الاجتماعي كون الأخيرة هي المختصة بمنح القروض للعاطلين، وحن نعمل حالياً من أجل شمول أكبر عدد ممكن من الفقراء".
ولحين وصول الإستراتيجية الوطنية للتخفيف من الفقر إلى أهدافها النهائية، وتخصيص مبالغ ضمن الموازنة الاتحادية لمنح قروض ميسرة للعاطلين عن العمل، تتطلع أعداد ليست بالقليلة من الفقراء إلى إسراع الدولة بانتشالهم من واقع مأساوي لا يتناسب مع الموازنات التي وصفت بالانفجارية.
https://telegram.me/buratha