كلمة للاستاذ ناصر العاملي القيت في الحفل التأبيني الذي اقامته رابطة الكتاب والمثقفين العراقيين في ملبورن/استراليا للامام السيد محمد باقر الصدر مساء السبت 7/4/2007 أهمية الإنسان من أهمية دوره وعطاءاته فمن يعطي ليس كمن يأخذ ومن يأخذ ليس كمن يسرق وشتان من يهب وآخر يمنعها.النفوس الكبيرة معطاءة دوما كريمة لا تمل ولا تخور لها العزيمة.تسعدها سجاياها وإن أتعبت أجسادها أو عرّضتها للبلاء وغِير الإقدار.آلاف البشر يطوون صفحات حياتهم كل يوم بأشكال شتى ثم ينتهي أمرهم في مراسيم أيام ليتحولوا الى رقم في سجل إحصاء الوفيات،وبطيّه يطوى ملفه الى يوم الدين.ومن بين ملايين البشر نوادر وعمالق لا يموتون بالرحيل ولا يدفن له أثر،لأنهم يرسمون نمط الحياة، ويصنعون ذروتها،وهم قلب تاريخها النابض، بل هم التاريخ في روعته.هكذا نقرأ التاريخ وندرك الليل والنهار.فالحركة والعمل مدين للنهار والنهار مدين للشمس فإذا غربت تقرضهم ذات الشمال فتستكن الحياة.العلاقة طردية فعلا.لنتخيل أوربا من دون روسو ولوك وهيوم وديكارت وغوته وشيلر وفولتير وديدرو ومن قبلهم صولون اللذي كان من تشريعاته أن الذين يبقون على الحياد في أوقات الفتن يفقدون حقهم بوصف كونهم مواطنين.لنتصور أرسطو وفيثاغورس وسقراط بأنهم كانوا جنودا لحراسة زيوس واورانوس آلهة الحرب والسماء ولم يخلفوا غير ترسهم والرماح. لا شك ان أوربا ما كانت كما هي اليوم من حيث نعلم عن مدى عمق تأثير هؤلاء في النهضة الأوربية،ولربما إمتدت القرون الوسطى الى يومنا هذا، تفتكها الحروب الداخلية والجدري الذي أوشك يوما أن يقضي عليها لولا أن أسعفهم الأتراك من الأستانة بالعلاج المناعي ضد الجدري.كان هؤلاء النجوم والأعلام عصب أوربا الناهضة وتاريخها، وستبقى حضارتها مدينة لعطاءاتهم مع الفارق أن الأمة الإسلامية لم تواكب جدية أوربا مع عظمائها بل خذلت تطلعات أعلامها ورموزها وعلمائها فكانت النتيجة ان غيرت النجوم مواقعها من سمائنا، فبين مصرع للشمس هنا ومهوى نجوم هناك(والنجم إذا هوى )( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم)إن الأمة بمواقفها اللامسؤولة وبحياديتها وعدم مبالاتها تتحمل مسؤولية هذه المصارع والدمار والضياع وهو ما نعيشه اليوم من مأساة لا توصف وأي ضياع. لنتخيل تاريخنا الإسلامي لم يلد عليا ولم يولد منه الحسين والباقر والصادق(ع)وإستفرد فيه أبو سفيان ومعاوية ويزيد ومروان الطريد وعبد الملك والحجاج والوليد وأمثالهم خلفاء يتلقفون الأمر تلقف الكرة وهادنت الأمة في مواقفها منهم وإنحنى لهم الرموز والأعلام ولم تكن هناك من تحديات ومواقف وبطولات إسمها كربلاء ولم تكن هناك من بلاغة سيدة الملاحم تحمل بيان الثورة ومشاعل نهضتها وهي التي مثّلت المرأة النموذج للعالم وكيف تكون مواقفها إذا ما إدلهمت الخطوب.لا شك إن تاريخا كهذا يعتبر سجلا سخيفا للرذائل والتراجعات لايستحق النظر اليه بلحظة،ولكنه إستحق القراءة عن جدارة حين إختزلته أنفاسُ عليّ ومدرسته ودماء الحسين وساحته . لقد إستمر منهاجهم جيلا بعد جيل يتوارثه مصابيح هدى عَلَمٌ من عَلم فكان صاحب الذكرى الشهيد السعيد السيد الصدر(رض)عملاق فكري صاغ الفكر الإسلامي في بوتقة معاصرة وقدّمه مذهبا صالحا لإدارة النظام الدولي العام بعد أن فنّد الأسس الفكرية للنظريات العاملة على الساحة الدولية . نعم لقد خسر العالم الإسلامي بل العالم كله مشروعا فكريا ضخما ورافدا مهما للإبداع على مستوى العالم والمستقبل كان السيد الصدر يجسده لقد كان السيد في عنفوان مرحلة عطاءاته المتدفقة حين أبتلي العراق بطاغية كان عميلا للمخابرات الدولية منذ نعومة أظفاره وقد اشرفت عليه السفارات المعلومة في بغداد وبيروت والقاهرة منذ الستينات حتى آخر ساعة من حياته، وكان السيد الصدر أحد أهم أهدافهم في قائمة الشخصيات المطلوبة تصفيتهم حيث أوكل تنفيذها الى الطاغية العميل فقتله في التاسع من نيسان عام 1980 . لقد تحلى السيد الصدر بصفات خلاّقة نادرة يصعب على المرء ان يحدد مساحتها، ليس من السهل أن يتوجه تلميذ في مقتبل عمره الى النجف الأشرف لدراسة علم الشريعة والفقه ثم يتوسع على حجم موسوعاتها الدراسية فيضيف اليها بحوثا وعناوين من خارجها ثم يتخصص فيها مبكرا وهو لم يدخل جامعة ولم يشرف على دراساته أكاديميين بل كان واحدا من مئات الطلاب اللذين يفدون الى النجف للدراسة من دون أن يكون لهم طموح الشهرة. ولكن السيد الصدر يجتاز أسرع من السنين فينهي دورات الفقه والأصول وموسوعات الحوزة بالكامل في فترة قياسية بالإضافة الى توجهاته الفكرية الخاصة لتتلقف المكتبات والشخصيات العلمية والجامعات العالمية إنتاجا فكريا رائعا في إطار علمي ممنهج جاذب هو له. إنتاج وصف بأنه هجومي خطير لإستهدافه قيم وفلسفات أهم قوتين كبيرتين على المستوى الدولي ناقدا ومفندا لأسسهما الفلسفية والإقتصادية سيما إن الزمن الذي برز فيه إتسم بالصراع العنيف والحرب الباردة بين النظامين النوويين الشيوعي والرأسمالي. إن إختيار طبيعة الموضوع الحساسة وطريقة نقده وطروحاته يعتبر في حد ذاته إدراكا مؤسساتيا بحجم دولة كبيرة وجامعات متخصصة وإشراف أكاديمي إختزلته عبقرية الصدر خيارا كفؤا.ومنذ نصف قرن لم يجرأ مفكر ما أن يتناول آراءه ونظرياته بالنقد وهو خير دليل على أن السيد الصدر سبق وقته بنصف قرن ولا يزال.
إن الحديث عن السيد الشهيد له ابعاده المدرسية والتاريخية والذاتية وان عطاءاته الفكرية إنبعثت من خلال هذا الثالوث الأساس.لقد كان السيد الصدر موهوبا بعبقرية مفلقة وإستعدادات ذاتية كبيرة وينتمي الى مدرسة الإجتهاد العقلية وقد تربى في حضن الأصالة فمنحته كل هذه العوامل قوة الإنطلاق الفكري الشاسع سبرا وغورا لم يقيده المألوف أن يخضع لأي إستبداد فكري جامد كالذي كان صفة لقرون طويلة في العالم المسيحي يوم كان الخروج على المألوف والإجتهاد العلمي في مخالفة الشائع كمناقشة الأفكار الكنسية الخاطئة مروقا عن الدين وجرما يسوق صاحبه الى مقاصل الإعدام.فمدرسة الصدر الإجتهادية هي مدرسة إهل البيت(ع)مدرسة الإسلام الأصيلة،تاريخ من الجهود العلمية وتواصل معرفي جاد وإستعدادات وكفاءة ذاتية وإخلاص وإيمان وتقوى خلق آخر نجم لم تعوضه الحوزات العلمية حتى يومنا هذا.
إن الحركة العلمية للسيد الصدر(رض)ورغبته الصميمة في طرح النموذج الإسلامي مهيكلا في إطار فكري موسوعي يستوعب حركة الحياة وحاجات الإنسان كانت قد تأثرت بالأولويات الملحة ومتطلبات الظروف غير الطبيعية ولكنه إستطاع بما أوتي من حكمة وبيان أن يجمع الأولويات العاجلة مع رغبته في عرض النموذج الإسلامي فكانت اسفاره القيمة خير تعبير جامع بين الحاجة والرغبة.
https://telegram.me/buratha