الاهوار.. هنا عالم من القصب والحشائش الطويلة الكثيفة، وغناء رمادي ينبثق من مكان ما. نزاعات عشائرية وشجارات مستمرة. أشباح تغرق في صمت الليل وظلام الحكايات، وأناس يصارعون آلام الأمراض والأوبئة. حزن عميق لا يشبه حزن سكان العراق الآخرين، الأمر الذي جعل سكان المدن يضربون به المثل، فيقولون "حزن معدان"، إشارة إلى عمق الحداد. في بيوت من القصب شيدت فوق المياه يعيش سكان الاهوار في جنوب العراق. ورغم الدهشة التي تخلفها تلك البيوت وطرق بنائها وحياة قاطنيها، إلا أنهم يعانون من شح المياه والنور وتراكم الهجرات وقسوة الحياة اليومية. اختلف المؤرخون وعلماء الانثربولوجيا في تحديد أصل سكان الأهوار الذين يعرفون أيضاً باسم "المعدان"، وتجمع بعض الآراء على أنهم أحفاد السومريين، ذلك أن الحضارة السومرية نشأت في تلك المنطقة التي تبلغ مساحتها الإجمالية نحو 20 ألف كم ويبلغ عدد سكانها نحو 200 ألف نسمة.
وبسبب الفقر والاضطهاد اضطر سكان الاهوار إلى الهجرة، ومن ابرز هجراتهم تلك التي حدثت في الخمسينات، ثم الهجرة التي حدثت أثناء الحرب العراقية الإيرانية 1980 - 1988. يومها أقدم النظام السابق على تجفيف مياه الاهوار وقطع القصب العالي وتجريف مساحات واسعة من الأراضي لتسهيل مهمات عسكرية كما قيل. لكن السلطة يومذاك لم تخف قلقها من أن تتحول الاهوار إلى مركز لمناهضتها. فالمنطقة كانت دائما، وعبر العصور، ملاذا للمنتفضين والثوار على السلطات، وقد وقع أشهر تمرد وقع أواخر الستينات وقاتل عناصره السلطة من مكامنهم في مياه الاهوار. كما أنها كانت ملاذا لمعارضي النظام السابق منذ بداية الحرب العراقية الإيرانية، وحتى التاسع من نيسان من عام 2003.
وإزاء الوعود الكبيرة بتحسين حياتهم وإنعاشها بالمياه، بعد التغيير السياسي في العراق عام 2003، عاد سكان الاهوار إلى حياتهم التي يمارسونها منذ مئات السنين. لكنهم حتى اليوم ما زالوا يواجهون المصاعب والحياة القاسية.
مشاحيف أور وسحر الماء عالم الاهوار
سحر الرحالة والمؤرخين والباحثين، ومنهم السير ولفريد ثيسجر الذي أقام فيه سبع سنوات وألف كتابا اسماه "رحلة إلى عرب أهوار العراق"، كما زاره المستشرق كالفن ماكسويل وكتب مؤلفا شهيرا حوله، وأطلق على المنطقة اسم "مملكة القصب". كتب ثيسجر يقول: "خرجت فجراً فرأيت على صفحة المياه العظيمة ظلال أرض بعيدة، ثم شيئا اسود اخذ يتضح مع شروق الشمس. للحظة أخذتني رؤيا حفيْظ، الجزيرة الأسطورية التي لن ينظر إليها أحد دون أن يفقد حواسه. بعدها عرفت أنني كنت أنظر إلى أجمات القصب العظيمة. يرسو على الضفة قريباً مني قارب رفيع أسود مشرئب القيدوم (مشحوف) الشيخ الذي يستخدمه في الحرب، بانتظار أن يأخذني إلى الهور. قبل أن تبنى القصور في أور خرج رجال في الفجر من بيت كهذا، دفعوا قوارب تشبه هذه القوارب، ومضوا للصيد".
والمشحوف، سمة الهور الأولى، هي مفرد مشاحيف: قوارب خشبية تفرد سكان الأهوار في صناعتها منذ القدم، تمتاز بقدرتها على التحرك بسهولة في المستنقعات ذات المياه الضحلة لأنها خفيفة الوزن مصممة بطريقة تجعلها أكثر انسيابية من القوارب الأخرى، وتحظى المشاحيف باهتمام أصحابها الذين يحرصون دوما على ترميم جوانبها وطلاء الجزء الأسفل منها بالقار لمنع تسرب المياه. ويدخل المشحوف في جميع مفاصل حياة سكان الاهوار، فهو لصيد الطيور والاسماك والنقل من مكان إلى آخر. ويقترن بالمشحوف بعمود خشبي طويل لتحريكه ودفعه يدعى المردي. لكن غالبية المشاحيف اليوم أصبحت مجهزة بمحركات حديثة تعمل بالوقود، ومع ذلك لم تتراجع الحاجة إلى المردي.
ويتفق المؤرخون على أن فضل ابتكار المشاحيف يعود إلى السومريين قبل أكثر من خمسة آلاف سنة. حتى مادة القار المستخدمة اليوم كانت تستخدم بطريقة مماثلة. بالإضافة إلى المشحوف توجد في مناطق الأهوار قوارب من نوع آخر منها ما يعرف بـ"البلم" و"الكعدة"، لكن صيادي الأسماك والطيور المهاجرة ورعاة الجواميس هم الأكثر تعلقاً بالمشاحيف، بحكم طبيعة عملهم الذي يتمتعون به وهم ينشدون المواويل على أنغام الناي المصنوع من القصب، في محاولة منهم لإنعاش أحلامهم وطموحاتهم التي أخذ يجففها الإهمال إلى حد الرغبة بالرحيل من جديد. فهم يشعرون بخيبة أمل إزاء إمكانية إصلاح الأوضاع المعيشية وتوفر الخدمات التي أدى غيابها إلى اعتمادهم على أساليب بدائية. جواميس جائعة من أبرز التحديات التي يواجهها سكان الأهوار اليوم انخفاض مناسيب المياه وملوحتها، إضافة إلى تفشي الآفات الزراعية واستشراء الأمراض التي تصيب الثروة الحيوانية، وهذا ما يؤكده الشيخ ناصر راضي، أحد وجهاء عشيرة (الحمادنه) في هور صلال الواقع شمال غرب البصرة 590 كم جنوب بغداد.
يقول الشيخ ناصر إن "مناطق الأهوار تشهد انخفاضاً حاداً في مناسيب المياه تجاوز مؤخراً حدود الثلاثة أمتار الأمر، الذي قلص من المساحات المائية، وأثر بالتالي على الزراعة وحجم الثروة السمكية". ويضيف "سكان الأهوار محرومون من أبسط حقوق المواطنة، هم مواطنون بالجنسية فقط، وإلا لماذا لا توجد في مناطقنا مراكز صحية ومستوصفات بيطرية أو مدارس". ويتابع الشيخ ناصر "الكثير من العائلات بدأت مؤخراً بالنزوح نحو المناطق القريبة من المدن، لأنها فقدت الأمل بإمكانية تحسين أوضاعها، خصوصاً أنها تكبدت خسائر مالية فادحة بعد هلاك الكثير من الجواميس والأبقار جراء تفشي الأمراض، وأخطرها يعرف بأبي حنيجير".
ويقول الشيخ ناصر إن "مياه الأهوار فقدت عذوبتها التي طالما عرفت بها، كما أنها تشهد ارتفاع نسبة ملوحتها للحد الذي يجعلها غير صالحة للشرب، لأن معظم نواظم البزل تصب في الأهوار"، مشيرا إلى أن ذلك يؤثر على صحة السكان الذين يضطرون إلى شرب مياه الاهوار، فتسبب لهم أمراضا وتشنجات معوية. ويضيف "حتى الجواميس بدأت تواجه صعوبة العيش هنا بسبب غلاء الأعلاف، إذ بلغ سعر الطن الواحد من قشور الحنطة 400 ألف دينار، وهذا المبلغ كبير جداً إذا ما قورن بإنتاج الأبقار والجواميس من الحليب". ولفت الشيخ ناصر إلى أن "أسعار الجواميس تباع حاليا بأقل من نصف السعر الذي كانت تباع به قبل نحو عامين". وبسبب غياب الاهتمام الصحي يبتكر سكان الاهوار الوسائل البدائية لمعالجة بعض الأوضاع، فهم يحرقون أكواما من القصب البردي والأعشاب عند حلول المساء لإبعاد البعوض عن أكواخهم.
المواطن سعيد زغير، 46 سنة، من سكنة قرية بني كعب في هور الشافي يقول "الدخان لا يقي السكان شراسة البعوض فحسب، وإنما يسهم في إبعاد الثعابين السامة والحشرات الأخرى التي تشكل خطراً على حياة السكان ولاسيما الأطفال". ويضيف "طالبنا الجهات البيطرية والزراعية أكثر من مرة بإيجاد حل لمشكلة البعوض، لكن أيا من تلك الجهات لم تبد تعاوناً معنا، وكثيراً ما تتحجج بأن استخدام المبيدات المضادة للبعوض يتسبب بهلاك الأسماك الصغيرة". ويعلق سعيد على ذلك بقوله "يبدو أن الإهمال بحق سكان الاهوار بلغ مرحلة أصبحوا فيها أقل منزلة من الأسماك بنظر الحكومة". ويضيف "سكان الأهوار لا يطالبون بتبليط شوارع واسعة أو جسور عملاقة، إنما يريدون مياه صالحة للشرب وكهرباء".
سكان مهد الكتابة.. أميون
يتفق المشرفون التربويون في محافظة البصرة على أن سكان الأهوار محرومون إلى حد بعيد من التعليم. وهذا ما يؤكده اتحاد المعلمين في محافظة البصرة الذي حمل وزارة التربية مسؤولية تخلف الواقع التربوي والتعليمي في مناطق الأهوار، إذ يقول أحد أعضاءه من المربين البارزين "يجب على وزارة التربية أن تضع خطة إستراتيجية لإنعاش الواقع التربوي والتعليمي في الأهوار"، ويعرب عن أمله بأن "تعامل وزارة التربية الأهوار باعتبارها منطقة منكوبة تعليمياً وثقافياً، وأن لا تتهاون في تقديم المساعدة، لأن هناك جيلا بأكمله على وشك اعتناق الجهل والتخلف، بسبب السياسة التربوية والتعليمية الفاشلة". ويضيف المريوش "هناك ظاهرة خطيرة ما تزال في تفاقم مستمر هي تسرب التلاميذ من المدارس، أو عدم تسجيلهم فيها والإحصائيات المتوافرة لدينا تشير إلى وجود طفل واحد من كل 10 أطفال مستمر في الدراسة الابتدائية في مناطق الأهوار". ويوضح المربي الفاضل"غالبية المدارس في مناطق الأهوار غير صالحة للتعليم. هناك عشرات المدارس ما تزال في طورها البدائي لأنها مشيدة من القصب والطين، وتفتقر إلى الأثاث ولا توجد فيها حتى مرافق صحية". ويرى رئيس اتحاد المعلمين أن الحل يكمن في "تفعيل قانون التعليم الإلزامي وإطلاق حملات واسعة لمحو الأمية، إضافة إلى بناء مدارس جديدة ورفدها بكوادر تربوية كفوءة". ويقول "من المخجل أمام العالم أن يتعمق الجهل والتخلف، في منطقة نشأت فيها أولى الحضارات، ومنها تعلمت البشرية الكتابة قبل آلاف السنين".
الأعراف العشائرية بديلاً عن القانون
وإذا احتدم الصراع تطلق الصواريخ الأعراف العشائرية من وجهة نظر سكان الأهوار هي الفيصل في حسم مشاكلهم وخلافاتهم، وحتى جرائم القتل العمد عادة ما تحسم بعيداً عن أروقة المحاكم ومراكز الشرطة. وبحسب المواطن جبار الخالدي 76 عاماً فأن "جلسات الفصل العشائري ما تزال شائعة بكثرة، حيث يجتمع وجهاء وشيوخ عشائر يمثلون الطرفين المتنازعين للتفاوض بهدف حل مشكلة ما بصيغة توافقية، وعادة ما يكون ذلك من خلال تعويض الشخص المتضرر أو المعتدى عليه بمبالغ مالية وفي حالات معينة تحل النساء محل المال خصوصاً في جرائم القتل، إذ يتخلى ولي أمرها عنها إلى الطرف الآخر، بصفة زوجة من دون مقابل، وتدعى المرأة حينها بـ"الفصليه"، كونها ضحية زواج قسري جاء نتيجة ارتكاب أحد أقربائها لجريمة ما". ويضيف الخالدي "عشائر الحمادنه والحلاف والكرامشة والسيامر والمياح وبني أسد وبني منصور والبهادل والزركان إضافة إلى عشيرة بني مالك، هي من أبرز العشائر التي تبسط نفوذها الاجتماعي على مناطق الأهوار".
ويؤكد الخالدي، وهو من سكنة قضاء القرنة، أن الخلافات والمشاكل الكبيرة في مناطق الأهوار "قد يتعذر احتواؤها أحيانا وفق الأعراف العشائرية"، كما يقول ويضيف "إذا حدث ذلك، فإنها تتطور إلى معارك تستخدم فيها مختلف أنواع الأسلحة والأساليب القتالية، مثلما حدث قبل عامين بين عشيرتين كبيرتين في المنطقة ، عندما تبادلا عمليات الخطف الجماعي وقصف القرى بقذائف الهاون وصواريخ الكاتيوشا، حتى حسم الخلاف بينهما مطلع العام الحالي، بتدخل من قبل الحكومة العراقية". ويستدرك الخالدي قائلا "هذه حالة نادرة، لكنها تعكس حجم القوة التي تتمتع بها العشائر في مناطق الأهوار، فهي تمتلك خزيناً هائلاً من الأسلحة والذخائر، واعتقد أن الحكومة العراقية لن تتحرك باتجاه نزع أسلحة العشائر، لأنها تدرك أن تلك الأسلحة لن توجه ضدها في المستقبل، ولأن اقتناء الأسلحة يندرج ضمن إطار المنافسات العشائرية في تلك المناطق، إذ تحاول كل عشيرة أن تظهر نفسها على أنها الأقوى بالاستناد على تعداد أفرادها وخزينها من الأسلحة".
خصصت الحكومة العراقية نحو 150 مليون دولار سنويا لإنعاش مناطق الأهوار في محافظات البصرة، وذي قار، وميسان، بواقع 50 مليون دولار لكل محافظة، لكن هذه المبالغ التي تتحكم لجان إنعاش الأهوار بإنفاقها لم تحقق أية انجازات تذكر، من وجهة نظر السكان. وتقول لجنة إنعاش الأهوار في محافظة البصرة إن "الموازنة المالية السنوية لإنعاش الأهوار قليلة جداً، ولا تتناسب مع حجم معاناة السكان ومقدار التخريب البيئي والجغرافي الذي تعرضت له تلك المناطق". ويضيف مسؤول فيها "نحن بحاجة فعلية إلى مبلغ مليار دولار حتى نتمكن من إصلاح الأوضاع في الأهوار الواقعة ضمن الحدود الإدارية لمحافظة البصرة".
2/5/726
https://telegram.me/buratha