الشعر

الوطن المُخاصِم .. في شعر محمد الجاسم


بقلم : رياض البغدادي

     بالرغم من وضوح الكلمة والمصطلح غير القابل للتأويل، على الأقل للعربي في اللغة العربية، إلّا ان الأدباء والشعراء تكون لهم مفاهيمهم الخاصة ، يفسرون بها تلك المصطلحات ويضفون عليها مسوحات روحية تتناسب ومفهومهم الحسي لتلك المصطلحات ، ذلك لأن الإحساس المرهف للشاعر هو بالذات أداته التي ينتج بها ذلك الكلام المثير للنفس والمشاعر،الذي يُصطلح عليه شعرا ...

     وعادة ما يتخصص الشاعر في فن شعري واحد يكون مدار إبداعه، وإن كان يكتب في غيره من الفنون الشعرية ،فبالرغم من شاعرية المتنبي إلّا ان الحكمة والفلسفة طغت على شعره حتى عرف بهما، وهذا ينطبق على جميل بثينة الذي كان الغزل والتغني بالعشق ( التشبيب ) مدارَي اهتمامه ، لكن لا يخفى ابداً تركيز الشعراء بجملتهم على مفهوم الإنتماء ، وظهوره في قصائدهم يكاد يكون من أوائل ما تتفتح عليه قريحتهم الشعرية ، بل أكاد أُجزم ان اول بيت شعري او مقطوعة نثرية يقولهما الأديب في أي عصر من العصور،سيكون للإنتماء بشكله العام فيهما حصة ، وقد يكون الإنتماء المتغنى به ضيقاً في مرحلة (الصبا الشعري )، وأعني به بدايات قول الشعر ، حيث أجزت لنفسي تطاولاً أنْ أفردَ الحياة الشعرية للشاعر الى مراحل عمرية ، تُقَسِّمُ حياة الشعر لدى الشاعر الى صبا وشباب وكهولة وربما شيخوخة أيضاً ، كأن يكون التغني بالإنتماء يبتدئ ضيِّقاً مقتصِراً على القبيلة او الأسرة، او حتى بقعة من الأرض،وربما نبع ماءٍ او تلَّة ،يأنس الشاعر رؤية مغيب الشمس من فوقها ...

     من هنا أودُّ ان أُبَيِّنَ هذا المفهوم، وأخص به الإنتماء لدى الشاعر العراقي المغترب في ألمانيــا ( محمد الجاسم ) ، ومن خلال قراءتي لمجاميعه الشعرية الثلاث ، وجدت أن له مفهومه الخاص للإنتماء، يختلف عن غيره من الشعراء، وظهر ذلك جلياً واضحاً في قصائد عديدة ..

لم ألحظ مطلقاً ،في كل ماكتبه محمد الجاسم، أو على الأقل ما سمعته منه مباشرة، أو ما قرأته له من قصائد، إنْ كان الوطن يمثل  له نهراً يتغنى به ، او مدينةً يغازلها ، او شارعاً ارتبط به هيجان طفولته وشقاوتها ...

الوطن في مفهوم الشاعر محمد الجاسم يكاد يكون وثناً ( يعبـده ) قربة الى الله ، أو معبـوداً قـد (أجاز ) الله له عبادته من دونه، إنْ صحَّ التعبير ، أو أجاز لي أهل الفن قولتي هذه ..

البعد المقدس في مفهوم الوطن

يشكل العراق للشاعر محمد الجاسم هاجساً تعبدياً يقربه الى الله وليس من دون الله ، الوطن في مفهومه مقدس ،( طوطمٌ ) لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، فهو يقول في قصيدة ولادة الدغلة :

يا وطني

يا طوطمي

لَمْلِمْ

جراحاتي بباقي النعوت

وكما ان الإنسان المؤمن يعود الى ربه بعد كل ذنب ، ويشعر بالتيه عندما يؤمن بأن ذنبه قد أبعده عن دفء رحمة الخالق وعطفه وعنايته ورحمته .. هكذا يصور شاعرنا حاله عند رجوعه الى وطنه ( معبوده ) العراق ، فبمشاعر الانكسار والتوسل وكلمات الخضوع ، يقول له مخاطباً في قصيدته ( عتاب الخائف ) :

أعودُ للحضنِ الكئيبِ

في الخرائبِ الهِزالْ

مُنكسراً

مُعوَّذاً

بحرزِ أمِّي

أو تميمةِ العِيالْ

؟؟

إياكَ أن تلفظَني ثانيةً

يا سيّدي

العراقْ

 

اذن فهو رجع منكسراً ،وبالرغم من أنه هو الذي ترك العراق مهاجراً ، لكنه لا يريد ان يقول لسيده ، انني تركتك ، فالمقدَّس لا يمكن ان يتركَهُ أحدٌ لثبات قدسيته في فكر المرتحل مهما ابتعد ، لذلك فتأدُّباً منه خاطب وطنه قائلاً :

إيّاكَ أنْ تلفظَني ثانيةً

وكأن الشاعر يريد ان يقول، لم يكن قراري أن ابتعدت وهاجرت، بل كان قرار الوطن ان ابعدني ( لفظني ) الى بقاعٍ اخرى ، لأني لم أكن مستحقاً احتضانَهُ لي ، لتقصير بدر مني أو ضعف في اداء التزاماتي في خدمته ، وهذا النوع من التأدب الخطابي نجده كثيراً في نصوص الأدعية الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، عندما يعلِّمون مريديهم آداب الخطاب مع الله تعالى ، كما في دعاء أبي حمزة الثمالي ،حيث يقول المعصوم مخاطبا الله : ( سَيِّدِي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَنِي ... أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِفّاً بِحَقَّكَ فَأَقْصَيْتَنِي ).

من هنا يجد الشاعر انه ارتكب كبيرة بحق الوطن حين تركه وهاجر ولمّا يعد ، قال له انت أكبر مِنْ أن يتركك أحد ، لكنك انت أقصيتني.. وإياك أنْ تُقْصِيَني ( تلفظني ثانية ) فربما يكون عندها حتفي ، ان حصلت ...

هذا المعنى نجده في قصيدة ( ماذا تركتَ لي ).. يقول الشاعر محمد الجاسم :

ماذا تركتَ لي

يا سيّدي العراقْ ...

الى ان يقول :

أعود للحضنِ المُصادَرِ

المفقودْ

منكسراً .. معدودَمَ الأملْ

إياك ان تلفظني ثانيةً

ويضيف الشاعر منتهى ما يشعر به الهارب من ربه ومعبوده فيقول:

إياك يا سيَّدَنا العراقْ

في هذهِ المرةِ

لن أكونْ

حكايةً تُطاقْ

لله در الشاعر حيث صوَّر الجحيم كله في هاتين الكلمتين الأخيرتين ، فكل شيء في هذا العالم يمكن ان يطيقه الانسان ، حتى المرض ، بل والموت ، فكلّ مَنْ سبقنا اليه كان في حدود طاقته وقدرته ، لكن لم يدَّعِ أحدٌ قدرتَه وطاقتَه على تحمُّل الجحيم ، فمجرد فكرة أن يلفظه الوطن مرةً اخرى يحلُّ الجحيمُ بعينه ،الذي لا يطاق ابداً ..

البعد الروحي للوطن

وفي عُرف شاعرنا ومفهومه للوطن ، أنّ له روحاً ، وهي حاضرة لا تفارقه ابداً ، فالوطن يضمُّهُ ويرقَبُهُ عندما ينتحب خلسة وحيداً بعيداً في فيافي الغربة ، يقول محمد الجاسم مضمنا هذا المعنى في قصيدته ( عذابات وطن لاجئ) :

يُضَمِّنُنِي وطني سَنا الكبرياءْ

ويَرْقَبُنِي

خِلْسَةً أنتحبْ

وفي قصيدة شاعرنا المعنونة ( علامات استفهام متمردة ) يقول:

أيها الوطن

المتمدِّدُ على بساطِ التقوى

مَنْ غيرُك في هذي الدنيا

ثَمَّ عراق ؟؟

لم يقل شاعرنا ( ثَمَّة وطن )

لان العراق في مفهومه هو المقدس الوحيد، وهو الذي يمنح القدسية لكل الأوطان ، لأبوَّته لها جميعاً ، فالأوطان كثيرة، لكن المقدس واحد فقط في عرف شاعرنا ومفهومه ، وهو العراق ، فلا يوجد في هذه الدنيا ثمة مقدس ( ثَمَّ عراق ) ..

البعد العاطفي للوطن

لقد شكل الإنتماء للوطن عند الشاعر ، وإحساسه العميق بالذنب لتركه وطنه وحيداً بيد من لا يرحمه من الطغاة والمتسلطين ، الذين أفسدوا الحياة فيه ( ويقصد النظام البعثي المجرم، فالقصيدة كتبها الشاعر في العام 2001 ) وهذا الذنب شكَّل هاجساً وخوفاً مستمرَّيْن عند الشاعر أن لا يحصل على مغفرة من الوطن تمحو عنه بُعده وتركه له وحيداً، في العقل الباطن وعالم الضمير، ومن شؤون الرحمة الالهية أن الله تعالى جعل للنفوس متنفساً يُهَوِّنُ بها الأحزان والخسائر وفقد الأحبة، بأن جعل عالم الرؤيا يقلب المفاهيم ليمتصَّ به النقمةَ من النفوس فتهون مصائبُها ،وجعل الطيف يمرُّ على شاعرنا، ويصور له أن الوطن هو الآخر يريد ان يغفر له، بل ويُحابي ليغفر له ، وهذا ظهر جلياً في قصيدة ( زيارة مرغوب فيها ) ..

يقول الشاعر محمد الجاسم فيها :

مرَّةً

زارني طيفُ العراقْ

وانحنى

في عَتْبَةِ الدارِ

يُحابي المغفرَةْ

ثم يرفع الضمير جرعة العطاء ،فيجعل الطيفُ لشاعرنا القدرة على توجيه العتاب لوطنه فيقول:

تنحني الآنَ

يا وطني

على عَتبةِ الدارِ ماذا تُريدْ ؟

غريمُك مَيِّتْ

وما عادَ يقوى

على الأستلابْ

وفي قصيدة عنوانها ( ضجيج الاماني ) يخبر الوطن أن جسمه أصبح شفيفاً وخالياً تماماً من كلِّ ما يمكن أن يجعله إنساناً بالمعنى التكويني للكلمة، فهو فَقَدَ القدرة على الإحساس بجسده، وتوقفت كلُّ فعالياتِه ،وما ذلك إلا بسبب البعد عن الوطن ،وهذا نقرأه في قوله :

ما شَفَّ جسمي غيرُ بُعْدِكَ يا عراقْ

يا وَيْحَ جُرْحِكَ يا عراقْ

وفي قصيدة عنوانها ( الذبّاحون ) ينتفض شاعرنا (للوطن الذبيح) الذي اشبعه ذبّاحوه تمثيلاً وتقطيعاً لجسده المُشْبَعِ بالطعون،وتفنَّنوا أنْ استخدموا كل انواع المُثْلَةِ التي حرّمها الله ولو بالكلب العقور، فنرى شاعرنا الحزين على الوطن يزرع الأمل في نفسه، فيقول :

حينما أغتالوا رصيفا

كَبُرَ الجُرْحُ بأشلاءِ الحياةِ

حينما اغتالوا شُعاعا

سَطَعَ النَّجْمُ بأنواعِ المرايا

المزهراتِ

 إذن، شاعرنا يَعُدُّ قتل الأبرياء على رصيف الوطن دون رحمة بالتفجيرات والمفخخات، بمثابة الحافز الذي يدفعنا الى مزيد من التمسك بالحياة ، ولا يخفى الإبداع الفني قليل النظير الذي ظهر في البيت ( كَبُرَ الجُرْحُ بأشلاءِ الحياةِ ) فقد مزج بين الجرح الذي هو مقدمة للموت، وبين الحياة بطريقة ابداعية غريبة ،إذ نقل الأشلاء من قاموس الموت الى قاموس الحياة ،وهذه صورة شعرية إبداعية نادرة .

ثم يقول إنّ ما يطفئه الذبّاحون من الاشعة والأنوار التي يزهر بها وطني، انما هو عبث عقيم منهم، فأصل الإشعاع يبقى في خدمة وطني وسيسرع الى مدِّهِ بأنواع أخرى من المرايا التي تزيد وطني إشعاعا ونوراً وتألُّقاً  :

وطني أكبرُ مِنْ جوعِ الرَّصاصاتِ الهزيلةْ

عمرُهُ عمرُ الزمانِ الحرِّ

لا عمرُ الطُّغاةِ

وهذا البيت الآخر من وجوه الابداع التي قالها شاعرنا محمد الجاسم عندما ربط عمر الوطن باللامتناهٍ في القدم ،وكأنه يريد أنْ يقول إنَّ وطني هو النقطة التي انبثق منها الكون برمته وليس مجرد الأرض، أو هذا الكون الفسيح، فكلمة ( الحر) تعطي انطباعاً بغياب كل ما من شأنه أن يقيد الزمان، كالمكان والحركة وغيرهما من قيود الزمان التي قال عنها الفلاسفة والفيزيائيون .

أرجو ان أكون قد أنصفت الشاعر فيما ذكرته في هذه المقالة المختصرة ، ولا أكون باخساً لحقه، مع اني أعترف أنه يستحق أكثر من هذا بكثير .

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك