استيقظت بعد الإنهاك الذي أصابني جراء عذاب يوم أمس، وما كان استيقاظي من استيفاء حق الجسد وإنما بسبب الضجيج الذي علا في قاعة المعتقل، وفي مثل هذا الوقت أي بعد منتصف الليل حينما يعلو الضجيج فلسبب واحد عادة وهو جلب أحد السكارى، ويستغل السجناء سكره وما يتكلم به عادة للتسلية والترويح عن النفس! لا سيما أولئك الذين لا ينتظرون استدعاء التحقيق ممن تم إحالتهم للمحاكمة ولا ينتظرون إلا موعد محاكماتهم والتي قد تطول لمدد كبيرة، أو الذين يتم اعتقالهم بناء على ملاحظة لأحد أقطاب العصابة الحاكمة،
فهؤلاء يتم إيداعهم وما لم يتذكرهم صاحب العلاقة فإنهم يبقون في المعتقل! فمثلاً كان سائق التريلا صالح يمر في الشارع الموازي لمعرض بغداد الدولي وبصق على يساره من دون أن يعرف أن موكب عزت الدوري خلفه فاعتبرت جريمته سباً وشتماً وبعد أن نال المقسوم من الضرب والتعذيب تم إيداعه في السجن وكان في ذلك الوقت قد مضى عليه ثمانية أشهر ولا مجال له إلا أن يتذكر عزت الدوري قضيته فيعفوا عنه أو يحال إلى المحاكمات الصورية الخاصة بهم! على أي حال اعتاد مثل هؤلاء أن يقضون يومهم بكآبة وضجر قاتلين، ولهذا حينما يأتي أحد السكارى فإنها فرصتهم للتخفيف عن عبئهم النفسي، ولربما يشترك معهم بعض الحراس في عبثهم بهذا السكير أو ذاك، وبطبيعة الحال لا يأتون بكل سكير، ولكن السكير الذي يشتم عصابة الحزب والثورة هو الذي يؤتى به، ولا زلت أحتفظ بقصص ثلاثة منهم لطرافتها من جهة ولطبيعتها التربوية أخرى، وأولها قصة رجل مسيحي اسمه (بول) إن لم تخني الذاكرة، وهذا كان عمره ينيف على الستين، وسوء حظه أن بيته كان في داخل المربع الأمني الذي اتخذته مديرية الأمن العامة مقراً لها، وهو مدمن على الخمر، ومع إدمانه هذا كان له إدمان آخر وهو شتم صدام والبكر، وفي كل مرة يأتون به يقضي أسبوعين، وما أن يتم الإفراج عنه حتى يعود مرة أخرى، وهكذا، وفي العادة لا يتم أخذ مكانه حينما يتم الإفراج عنه بل يحجز له، لأنه سيعود حتماً، وقد وجدته قد استمر على هذه الحالة حينما عدت إلى هذه القاعة في اعتقالي الثالث عام 1979، والطريف أنه حينما يخرج كان المعتقلون يهتفون له: ترجع بالسلامة! وهو يومئ لهم برأسه فرحاً ومؤكداً لهم رجوعه.
وفي هذا اليوم كان الذي تسبب بالضجيج هو شاب صغير العمر لعله لا يتعدى العشرين، ولكن سكره كان قبيحاً للغاية، واسمه (خ. النعيمي) فهذا كان قد نصب مائدة سكره في أحد الجوامع ولعله كان يتحدث عن مكان الجامع في منطقة الوشاش، فاتخذ من المحراب محلاً لسكره، ولم يكتف بذلك وإنما قام بالتبول والتغوط في المحراب، وأكمل سهرته بأن كتب شتيمة للبكر وصدام على حائط الجامع، وقد جاؤوا به ليس لسكره، وإنما لتعديه على مقدسات عصابة الإجرام هذه، كان الحراس قد ضربوه كي يصحوا ولكن حينما استقر في المعتقل كان لا يزال الخمر يدور برأسه ولذلك كان مورد تندر ومرح السجناء!
استقر النعيمي قريباً من المكان الذي كنت أنام فيه، ولذلك كان من الطبيعي أن أسلب النوم يومي ذاك، والأهم كان الضجيج قد شاغل ذهني عن الوعيد الذي أطلقه مصعب التكريتي بشأن يوم غد، ولا يوجد لدي أدنى شك بأنه سينفذ وعيده باعتبار أنه أنجز كل ما توعّد به سابقاً، وعلى أي حال اقترب النعيمي بعد عدة أيام مني لما يراه من تعذيب شديد يطالني، ولخصوصية أن السجناء كانوا يوصون من يصاب بكآبة أو يأس أن يجالس الإسلاميين لطبيعة وقارهم واتزانهم السلوكي، وربما يقومون بتوصية أحدهم بأن يهتم بفلان السجين لتردي وضعه النفسي، وفي بعض الأحيان يعمد الحراس لذلك، وأيّاً ما يكن فقد كان النعيمي طيب السريرة سرعان ما أظهر ندمه وكان يبكي حينما يتحدث عن كيفية تلويثه المسجد بسكره، وأخذ يلتزم بالصلاة، والمفارقة الغريبة أنه دخل سكراناً ولكن بعد مدة تم استدعاءه وتعذيبه في الشعبة الخامسة! بسبب التزامه بالصلاة ومجالسته للإسلاميين في المعتقل!
ولا تفوتني قصة السكران الثالث الذي جيء به بعد عدة أيام وقد كان من مدينة الثورة (مدينة الصدر حالياً) وذنب هذا الرجل كان لافتاً، فلقد شرب المسكر فأطاح بعقله، وكان قريبا من الباب الشرقي يقول: فوقفت في باب الشرقي وقرأت الخطبة الشقشقية للإمام علي عليه السلام وكان يحفظها عن ظهر قلب مع العديد من الخطب كما تبين لاحقاً، ثم شتمت ولعنت، وأخذني الحماس فشتمت السيد الرئيس والسيد النائب! فجاؤوا بي!
على أي حال بقيت مسهّداً ذلك اليوم وأنا أفكر بما سيجري في يوم غد، وما يزيد القلق أن التعذيب لم تضعف وتيرته بل هو آخذ بالتصاعد، ومقتضى ما تحدث عنه المجربون من السجناء أن التعذيب يستمر بالتصاعد إلى أن ينتهي إلى الذروة ثم يبدأ بالتراجع، ولا يبدو لي أننا وصلنا إلى الذروة بعد، مع أنه مر على التعذيب ما يقرب من العشرين يوماً أو يزيد، ولا أجد في طبيعة الأسئلة التي يطرحونها ولا المعلومات التي يطلبونها أن لديهم قضية عليّ أساساً، وراحت الاحتمالات والظنون وضرب الأخماس بالأسداس تعتمل في داخلي مما منعتني من أن أرى النوم إلا قريباً من صلاة الفجر، ولكن بعد أن استيقظت للصلاة لم أعد للنوم فالقلق والهواجس كانا يسيطران بشدة،
ومع أني كنت أسائل نفسي عما يمكن أن يحصل أكثر من الذي حصل؟ فلقد مررت بشطر كبير من التجربة ولم يحصل ما أخشاه، لكن وساوس الشيطان وتهاويله بقيت تهاجم كل موضع للسكينة، وبقي الحال على هذه الشاكلة إلى أن شارف الوقت على قرب الدوام، فتذكرت مقال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا هبت شيئاً فقع فيه، وكان لهذا القول أثره في أن أوطن نفسي على مواجهة الذي يأتي مستعيناً بالله تعالى، رغم أني لا أمتلك من أمري شيئاً، وبالفعل لم يتأخر استدعائي مع أول دقائق الدوام، وأخذوني سيراً على الأقدام، وكم كنت أمنّي نفسي أن نعود إلى الشعبة الخامسة بدلاً من الذهاب صوب وحوش الشعبة الثانية، إذ بدا لي أن بعض الشر أهون! ولكن هيهات فلقد وجدت الشعبة الثانية أمامي وما أن دخلت حتى بدأ الكرم الذي يتميزون به عبر صفعاتهم الصباحية وألسنتهم القذرة، وتصاعد قلبي باتجاه حنجرتي ترقباً وتوجساً من تهديدات مصعب التكريتي، وها هي رسل تهديداته قد وصلت رغم عدم وصوله، ولكن لم يمض إلا دقائق حتى بدأت استعدادات أحذيتهم تعبر عن وصوله، وهو ما أن وصل في حدود الثامنة والنصف حتى أدخلوني عليه، وبمجرد أن رآني حتى قال بلهجته: راح تتكلم اليوم أو أشوفك نجوم الظهر لأن اليوم أني متفرغ لك، ومن الواضح أنه متفرغ لي لأنهم أدخلوني عليه من بداية وقت الدوام على خلاف العادة أني كنت انتظر لمنتصفه تقريباً في الأيام السابقة، وما أن قلت بأني لا أمتلك جديداً أقوله، حتى بدأت جولة الصفعات والركلات واللكمات من قبل إثنين كانوا يقفون إلى جنبي، ثم تم توثيق عيني، وبعد بضعة أسئلة عن طه جابر العلواني والمرحوم السيد داود العطار والمرحوم السيد مرتضى العسكري والنشاط في مدارس الإمام الجواد عليه السلام وأسماء أخرى وكل الذين أعرفهم منهم كانوا من جيل يكبرني ولا تتناسب فعالياتهم مع عمري، ولما كانت الأجوبة منفية طلب أن يتم تعليقي، وسرعان ما تم له ذلك وازدحمت الغرفة بالأفراد ومعها حانت أزفت ساعة الألم الكبير!
كانت هراوتان مطاطيتان بمعية خشبة تتناوب على أقدامي وصولاً إلى الأفخاذ، ولا يمكن لأحد أن يصف الألم المبرح الذي كانت تولده هذه التوليفة من ألم التعليق وألم الضرب، ولا العزم الذي يبديه هؤلاء في تسديد ضرباتهم، ولا أشك أنهم لو ظفروا بقاتل أبيهم ما زادوا على ما كانوا يسددونه لي من ضرباتهم، كانت صرخاتي وصياحي قد ازدادت مع هذا النمط من التعذيب وكثافته، وعلى خلاف عادتهم فلم ينزلوني من التعليق لغرض تمرير الدم وإنما استمروا مدة أطول مما سبق وعالجوا أمر راحة فريق التعذيب باستبدال غيرهم، وبالتدريج ما عدت أحس بالألم رغم أن هراواتهم لما تزل تنهال عليّ، وقد بدا لي أن هذا أفضل لي مما لو أنزلوني وأحاطوني بحلبة الملاكمة التي يعقدونها عادة حينما يستريح فريق التعذيب، وقد أحسّوا بأن الألم ما عاد يمضّ بي، لذلك أنزلوني وأمروني بالوقوف، ولكن هيهات أن أتمكن من الوقوف، فما أن حاولت النهوض حتى وجدت أني لا أحسّ بأقدامي لذلك سقطت، فأجبروني على المسير مع مداراتي بلكماتهم وصفعاتهم، وبدأت أحسّ أن الأرض مبتلة، وللوهلة الأولى ظننت أن هذا البلل ناجم من الدم الذي ينزف حتماً من قدمي، غير أن الأمر كان مختلفاً إذ بدأت أقدامي تعاني من وخز حارق وفي العمق من ظاهرها، مما أعاد الحس الذي فقدته نتيجة للخدر الناجم من التعذيب بشكل سريع، وحينما بدأت أسير بطريقة هي إلى القفز أقرب منها إلى السير نتيجة للوخز الذي استمر يبرحني ألماً، وضاعف ذلك أني لم أكن أعرف من أين تأتيني اللكمة أو الركلة أو الصفعة فلقد اصطفوا بطريقة دائرية، وتوسطوني في وسطهم، وكان الغثيان وألم الوخز اللاهب ليس بأقل من آلام ضرباتهم المستمرة، لم أعرف كم عدد الذين يتولون الضرب، ولكن القدر المتيقن أني رزحت لمدة لا تقل عن ربع ساعة تحت رحمتهم بهذه الشاكلة، وحالما انتهت هذه الجولة حتى وجدت نفسي معلقاً من جديد، وعادت هراواتهم تتلوى على جسمي، وعاد الألم يتجدد وتتزايد شدته ولكن الوخز في أقدامي بدأ يخفّ، كانت حنجرتي قد بدأت تضيق بي، فهي بين اللهاث وتسارعه وما يتسببه ذلك من سرعة جفاف القصبات، وبين صرخاتي وصياحي، فيما كان لساني يعاني من جفاف لا بل قل من التحجّر، فلقد جفت الغدد اللعابية من أن تمدّه بأي مدد، وكلما كنت أستغيث بهم بأن يعطوني قليلاً من الماء، كانوا يشترطون الاعتراف مقابل الماء، ولقد كانوا يريقون الماء على يدي كي أحس بالماء، وظل جفاف الفم وتحجّر اللسان ويباس القصبات والصيحات التي كانت تنطلق بشكل لا أمتلك الوقوف أمامه تلعب كلها دوراً يضاعف عليّ العذاب،
واستمر الجلاوزة ينهالون في الضرب، وفقدت القدرة على أن أنطق بشيء لأني وجدت لساني في أكثر من مرة يلتصق بلثتي العليا دون أن ينفك عنها، فازدادت وتيرة ضرباتهم وهم يسخرون من ذلك بأني أمثل دور بلال الحبشي! وسبحان الله لا الصراخ يجدي ولا السكوت، كان جسمي يتلوى بجميعه يمنة ويسرة وكنت كالملسوع الذي لا يستقر له قرار، وكيف أفعل والهراوات لم تهدأ، وكان للخشبة أثر آلم بكثير من الهراوات المطاطية، ويالله لو التصقت بالجسم أو سقطت على عظم! ولكن طبيعة الألم حينما يطغى يهوّن بعضه العظيم ما هو أعظم، وإن كنت أنسى فلا أنسى كيف أن مصعب في ذلك اليوم قال لهم اجلبوا له ماءاً، فأنزلوني وقد جاؤوا بإناء بلاستيكي ما أن وضعوه على شفتي وإذا بلطمة مدوية داهموني بها على فمي وقد جرى ذلك وسط ضحكاتهم وسخريتهم، ولا زال شعور الاهتضام الشديد يعتمل في داخلي كلما ذكرت تلك اللحظة، نسيت العطش والجفاف ولكني كنت حائراً ماذا أفعل؟ فيما أصواتهم التي تطالب بالاعتراف تتعالى ووسوسة الشيطان تدفعني، ولكن هيهات ما كنت لأشي لهؤلاء المجرمين بحرف واحد يستفيدون منه، وأعترف بأن التزامات التكليف الشرعي لم تكن الوحيدة التي شكلت سداً ومانعاً أمام أن أبوح بما أعلم، وإنما كان إنتمائي للنجف الأشرف وما يعنيه هذا الإنتماء بالنسبة لي ولهم في بعديه الديني والسياسي، وأيضا إنتمائي لعشائر الجنوب أبية الضيم، فأنا من "إخوة هوبة" (وهو فزعة عشيرة آل جويبر الخاقانيين) قد لعب هو الآخر دوره في تعزيز العناد والإباء الذي تملّكني في تلك الساعات.
جاء أشخاص آخرين كما بدا لي من تغيير الأصوات، وظاهراً احتلوا محل من سبقهم من فريق التعذيب الذي لا شك أنه أنهك، وفكّ هؤلاء حبال التعليق عني وبدأت رحلة المشي الإجباري ومعها عاد الوخز واللهيب في قدمي من جديد، وانتبهت إلى أن الأرضية فيها مادة خشنة وكأنها تلتصق بقدمي، وما عدت أهتم بما كانوا يسددونه من ركلات وصفعات وما كانت تفعله لكماتهم بي بقدر أنيني من هذا اللهيب، كم تمنيت أن أستطيع أن اقفز كي لا تمس قدمي الأرض لأني كلما ضغطت على الأرض بها كلما زاد الوخز شدة وألماً، ولكن أنى لي القفز وحال أقدامي مما يرثى لها؟ رميت نفسي إلى الأرض فلامس وجهي تلك المادة الخشنة التي كان لها أثر اللسع الشديد في المواضع التي لاصقته من خدي، ولم استقر على الأرض حتى كانت ركلاتهم التي لم توفر أي جهة من جسمي تضغط عليّ للنهوض، ونهضت بعد مشقة وقد عادت اللكمات والغثيان الذي تتسبب به واللهاث الذي يضيف إلى الجفاف جفافاً، لا أتذكر ماذا كنت أقول لهم وأنا في تلك الحال؟ ولكن أعرف أن ضرباتهم ظلت تتوالى وتشتد، أكّد مصعب التكريتي عليهم بأن لا يتركوني اليوم إلا بعد أن أتكلم، يا إلهي ما هؤلاء؟ وأي ثأر يطلبون؟ وما كان لي إلا أن أترك العنان لضربهم وما عاد جسمي يبدي أي أثر للمقاومة، وما عدت أتلوّى،
ولا أتذكر أني استغثتهم بعد ذلك بأن أضع في فمي قطرات من الماء، ولكن صرخات الألم لم أتمكن من الحيلولة عنها، كنت أمنّي نفسي يأن ينتهي دوامهم، وكيف؟ الشوط لما يزل طويلاً على ما يبدو، ودعوت الله في سري أن يوقف بلاء هذه الليلة، لم أطلب الفرج في حينها وكل الذي طلبته مقداراً من الراحة ألتقط فيها أنفاسي! ومن اليقين لي أن الله أخّر الإجابة وادخّر لي ما هو أعظم أثراً في كل حياتي "ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمه بعاقبة الأمور" وكانت لهذه العبارة من دعاء الافتتاح أثرها البالغ في نفسي بعد أن رأيت أن هؤلاء المجرمين لم تفتر سواعدهم ولم تعيى أياديهم عن تسديد المزيد من الكيبلات المطاطية..
استمروا على هذا المنوال يتنقلون ما بين التعليق وما بين الإجبار على المسير، ولم أجد أي مؤشر بعد على أنهم سيتوقفون، إلى أن سمعت أحدهم يقول للثاني ماذا تأكل؟ فأحسست فرحاً بأن وقت غذاءهم قد حلّ، ومن فرط سذاجتي أني سألت الجلاوزة عن الساعة! فما كان منهم إلا أن اتخذوا السؤال سخرياً وسبباً لإنزال المزيد من لؤمهم وعقدهم الدونية، قال لي أحدهم ساخراً: هل لديك موعد؟ فيما سدد لي لكمة على وجهي مشفوعة بشتائم متوالية، وقد لمت نفسي على هذا السؤال، وكيفما كان فقد تهادى إلى أنفي روائح الطعام فأيقنت أن ساعة الغداء قد حلّت، ولعلهم يتركوني لوقت مستقطع من الراحة، ولكنهم اكتفوا بإبقاء هراوة واحدة تضرب فيما انسحب البقية لكي يتغدوا!
إذن كان مصعب التكريتي وفياً في تهديده، فماذا عساه أن يهدد بأكثر من هذا الذي فعل؟ وماذا يمكنه أن يفعل أكثر من ذلك، هكذا كنت أحدّث نفسي، فالموت في وقتها كان أمنيتي التي أجد فيها الخلاص، وكيف لا يتمنى الإنسان الموت؟ وحاله كهذا الحال!
انقضى نصف النهار وعاد الجلاوزة إلى العمل الوحيد الذي يجيدونه، وعاد جسمي يتلقى المزيد من كرم حزب البعث ومجرميه على نفس الوتيرة التي كنا عليها في الصباح، وحمدت الله أنهم لم يأتوني بالغداء وأنا في تلكم الحال كما فعلوا في السابق، وتعايشت مع العطش والجفاف، وأخذ جسمي يتأقلم مع الألم، وما عادت الوخزات اللاهبة والتي لم أعرف سرها بعد تثير فيّ ما كانت تثيره من قبل من لهيب وحريق، ويمكن القول بأن جسمي بلغ حد الإشباع، ومنبهات الجسد كلّت وانهارت بعد أن أفرزت كل ما لديها من منبهات، وبدوت أكثر مطواعاً لضرباتهم، ولكن بقي القلق من الخطوة اللاحقة لهم مسيطراً عليّ مع أمل يحدوني بأن ساعة الراحة ستحل قريباً ويعاد بي إلى المعتقل، وبعد مضي وقت على ذلك جاءني صوت مصعب وهو يقترب مني ويقول لي: ما رأيك لو ترتاح قليلاً ثم نتحدث؟ وعوض أن أقبل بهذا العرض قلت له: لقد قلت لك كل ما أعرفه فعن ماذا نتحدث؟ عاجلني بلطمة على وجهي وأوصى فريقه بأن يستمروا، ومع أنهم استمروا إلا أن خيطاً رفيعاً من شعور الراحة والزهو تملّكني وأنا ألاحظ يأسه من جهة، وألمس منه سعياً لخاتمة تتناسب مع تهديده الذي كان قد أطلقه، وبالفعل فبعد أقل من ساعة توقفوا!
أنزلوني من التعليق وفكوا القيد من يدي، ورفعوا العصابة من عيني بعد أن خرج غالبيتهم من غرفة التعذيب، وكم أدهشني أن الساعة كانت تقترب من الرابعة، فهذا يعني أني قضيت ما يزيد على سبعة ساعات ونصف تحت التعذيب المتواصل، وأثناء مسعاي للقيام بمعونة اثنين من هم رأيت الملح المجروش (كتل الملح قبل طحنها) ينتشر في أرضية صالة التعذيب، فعرفت سر الوخز اللاهب الذي كنت أعاني منه كلما أنزلوني، فلقد كان هذا اللهيب والوخز الذي كنت أعاني منه هو نتيجة لدخول الملح في داخل الجروح التي انتشرت في أماكن عدة من جسمي، فتذكرت ما كان رجال الأمن في مدينة كربلاء يوم العاشر من المحرم في العام الماضي (1975) أثناء خروج موكب التطبير باسم موكب شباب كربلاء بالرغم من المنع الشديد الذي نفذوه، فلقد كانوا كلما ألقوا القبض على أحد المطبرين يضعون كميات الملح فوق رأسه!..
يتبع باذن الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحلقات السابقة :
الكباب في غرف العذاب (حينما كنت في الزنزانة) الحلقة السادسة
كان الصراخ والعويل والأنين يصم الآذان.. حينما كنت في الزنزانة (الحلقة الخامسة)
اقترفت خِطئاً فادحاً إذ ناديت بصوت ضعيف: يا الله! حينما كنت في الزنزانة (الحلقة الرابعة)
نقلوني فبدأت اتمنى الرجوع للشعبة الخامسة حينما كنت في الزنزانة ( الحلقة الثالثة )
على حين غرة اشتعلت النيران في وجهي حينما كنت في الزنزانة (الحلقة الثانية)
هذا ما حصل في الزنزانة حينما اعترفت تحت وطأة التعذيب عام ١٩٧٦ (الحلقة الاولى)
https://telegram.me/buratha