كان الجلاوزة قد داهموا البيت الذي كنت أسكن فيه في الكاظمية (محلة الأنباريين) بأعداد كبيرة وفتشوه بحثاً عن الأدلة التي سيدينوني بها! وكان من أهم الأدلة التي عثروا عليها هو كتاب نهج البلاغة ومفاتيح الجنان والمسائل المنتخبة وعشرات الكتب الأخرى، وقد تم تقديم هذه الكتب لاحقاً ضمن ما تم تقديمه في محكمة الثورة بعنوانها أدلة إثبات! ــ وهي أعلى محكمة في الدولة يومذاك ــ
وبطبيعة الحال فإني كنت قد أخرجت وأبعدت من البيت كل ما من شأنه أن يمثل مورداً لتأكيد ما يبحثون عنه فيما يتعلق بالتنظيمات الإسلامية والموقف من الحزب المجرم، والطريف والذي أخافني عليه كثيراً في نفس الوقت أن ابن عم لي (الحاج أبو علي الصغير) كان لاعباً في أحد أندية النجف وقد أصيب في وقتها بكسور في ساقه وكان قد خرج للتو من المستشفى واستقر في بيتنا ريثما يتمكن من الحركة، وكان يستغل الغرفة الخاصة بي لمنامه، ولذلك حينما رأى الجلاوزة وهم يقتحمون الغرفة ويصادرون الكتب، حاول أن يدافع عني بما يعتبرونه إدانة فتحدث لهم عن أخلاقي وتصرفاتي وما كان يدرك أن ما تحدث به هو التهمة التي وضعتني في دائرة الشبهات، وقد أجابوه بإهانة وأسكتوه تحت طائلة أن يعتقلوه هو الآخر! ومن نعم الله أنهم لم يفعلوا رغم أنني وجدته معتقلاً في سجني اللاحق عقب إنتفاضة الأربعين عام 1397 ــ 1977 في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد!.
على أي حال كانت الأيام الثلاثة الأولى من أشد ما مرّ عليّ في حياتي كلها، ولم يكن التعذيب هو أشد ما فيها رغم شدته على شاب بمثل عمري، ولكن كان الضغط النفسي عليّ في غاية الشدّة لأنهم كانوا يهددون بجلب الوالدة رحمة الله عليها ونساء العائلة ومع كل الألفاظ القذرة التي كانوا يستخدمونها، وقد بلغت الشدّة حدّاً أن الإدرار تحوّل إلى خليط من الدم، ولكن في اليوم الثالث بعد انتهاء الجولة الثالثة من التعذيب، والجولة المعتادة هي أنهم يبتدأون في الساعة الثامنة والربع بمناداة السجين (مع أول دقائق دوامهم) ولأننا كنا نذهب من المعتقل إلى غرف التحقيق مشياً على الأقدام، فقد كان يستلزم ذلك ما يقرب من 15 دقيقة، ومع قرب الساعة التاسعة تشرع فرقة التعذيب باستعراض مهاراتها بشكل عملي، وتستمر في الظرف الطبيعي حتى الساعة الثالثة إلا ربع وهو موعد نهاية الدوام، ولكن هذا لا ينطبق على كل الأيام فإن كان الضابط المعني هو الخفر فيا ويل المعني بالتحقيق من السجناء يومذاك وفي بعض الأحيان كانت الجولة تطول إلى منتصف الليل، وهي جولة بمحض وجودك في غرف التحقيق مرعبة فكيف إذا بدأت عملية التعذيب، وفي بعض الأحيان يصدف أن الضابط بمزاج عكر، أو يكون سكراناً فعندئذ ترتفع معدلات خليط (الرعب والخوف والقلق)
أقول في نهاية حفلة التعذيب في ذلك اليوم وحينما استقر بي المقام في صالة المعتقل، وكان بدر الدليمي قد هددني بأنه في صباح الغد إن لم أعترف له فسيعتقل نساء العائلة.. وهذا الأمر لم يك بعيداً عن أخلاقياتهم، ولهذا كان مشاعر القلق وهواجس الخوف والرعب تجتاحني بكل عنف وتنتابني بمنتهى الشدة بحيث أني لم ألتفت إلى واقع المعتقل وطبيعة من كان فيه، ويومها وقفت بباب المعتقل حائراً فيما كان داخلي يغلي كالبركان، ولكن حدث ما غيّر كل الأمور بالنسبة لي فقد تم في تلك اللحظات وقساوتها مناداة أحد المعتقلين وقيل له الكلمة السحرية: إفراج! وما بين فرحة الرجل وما بين تهنئة رفاقه وتوصياتهم له بالذهاب إلى عوائلهم كنت منشغلاً بمراقبة الرجل وتصرفاته وكيف جمع أغراضه الشخصية وكيف خرج من الباب الأول ثم استلم أماناته من إدارة المعتقل وخرج من الباب الثاني الذي يؤدي إلى الدرج الطويل للمعتقل ورحت أتخيله وقد وصل إلى الباب الثالث والتي يكون فيه قد خرج من المعتقل تماماً، وهنا كان النداء في داخلي: من الذي أخرج هذا الرجل؟
هل هو السجّان أم الله تعالى؟
وكان هذا السؤال مدعاة لتأمل موضوعي وهادئ في أعماقي! وبعد الجدل داخل النفس توصلت إلى قناعة لعبت أعظم الدور في كل شأن جرى لي بعد ذلك، فلقد توصلت إلى ترتيب الأمور بشكل منطقي: فالمؤمن مبتلى، وهو في معرض الاختبار دوماً، وعليه أن يصبر ليرى الله ثباته وصدق ادعاء الإيمان، ولهذا فإن السجن قد تم بإرادة الله والفرج أيضاً سيكون بيد الله، وما دام الأمر كذلك، فإن مسؤوليتي تتلخّص في أن أثبت في موقفي هذا وأدع شأن العائلة إلى الله فهو الذي يتولاني هنا، كما أنه هو الذي يتولاهم هناك، ولا داعي لأن أقلق بهذه الطريقة التي كنت عليها، وعليّ أن أقتدي بأصحاب النبي الصابرين وأصحاب الإمام أمير المؤمنين وبقية الأئمة عليهم السلام،
فأين أنا مع ما جرى لميثم الثمار وحجر بن عدي ورشيد الهجري وعمرو بن الحمق؟ وأين انا من ثبات أبي ذر والمقداد بن الأسود وهاشم المرقال؟ ورحت أستعيد ما قرأته عن حياتهم في كتابين تركا أبلغ الأثر عليّ في تلك المواقف، وأعني بذلك كتاب بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وكتاب من مدرسة الإمام علي عليه السلام للمرحوم الحجة السيد محمد بحر العلوم رحمه الله، بالإضافة إلى مواقف كربلاء وأبطالها، وما من شك أن هذه النتائج التي توصلت إليها مع أنها لا تعدو مجرد كلمات أكتبها في سطور قليلة، ولكن التفكير بهذه الطريقة وأنت في قلب العاصفة أمر مختلف تماماً، فلقد كانت في أتون الأزمة التي كنت فيها، وكل ما كنت أفكر فيه كان الشيطان يهوّل الأمر عليّ عبر وضع أسواط الجلادين وقبضاتهم وألسنتهم وتهديداتهم أمام عيني كي أنشغل فيها وأستسلم لها،
وحقيقة كان هذا التأمل في ساعة العسرة سبباً أساسياً في أن تتحول كل القضية إلى أمر أشبه بالطبيعي وذهب عني التهويل، وعادت لي قوتي التي كادت تنهار وتتحطم نتيجة الأزمة النفسية التي مررت فيها، والمفرح الذي أتم الأمر هو أنني حينما عدت لأجلس على البطانية التي أنام عليها أمسكت القرآن وتفاءلت به، فجاءت الآية: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} [سورة آل عمران: 126] فاكتسبت القوة المعنوية التي أحتاجها للمضي بهذا الإمتحان وتملكتني مشاعر الراحة بل والامتنان أن أحظى بهذا الإختبار، ولهذا استسلمت من بعدها لنوم عميق كنت قد حرمت منه خلال الأيام التي مضت.
ومع أن صادق مأمور الشعبة قد جاء على عادته وكنت قد تهيأت للذهاب معه، ومع أن قلبي كان يعتمل بمخاوفه غير أنني هذه المرة كنت غير الذي اقتادوه في السابق، وما أن وصلت إلى شعبة التحقيق حتى طلب لي بدراً الشاي وراح يمثل دور الرجل اللطيف الذي يرفق بي محاولاً اقناعي بأن أعترف كي أعود للبيت ولدراستي وقد كان الوقت مقارباً للامتحانات، وانتظر مني الجواب الذي لم يختلف عن الأجوبة السابقة، وسرعان ما تغيرت سحنته وصاح بجلاوزته أن يعلقوني وما أسرع ما فعلوا وعادت مشاهد الهراوة التي ترفع عالية وتنزل على الجسد بكل قوتها، لا يمكن إحصاء ما ضربوني في ذلك اليوم، ولكن من عادتهم أن يستمروا بالضرب لفترة ثم يعودوا لفك رباط الحبال ليعود الدم إلى اليدين أو الرجلين، ومعهما تعود الخلايا الحسية إلى بث رسائل الألم والوجع، لأن كثرة الضرب تلغي أثر هذه الرسائل بسبب التخدير الذي يهيمن على المنطقة التي تضرب، وفي بعض الأحيان يتم إجبار المعذّب على السير على رجليه وحينما أذكر كلمة الإجبار فإنها تعني اللكمات والركلات المحترفة، ولأكثر من مرة كنت أوضع بين مجموعة من الجلاوزة كي أكون أشبه بكيس الملاكمة،
ولا أتذكر أبداً أنني سقطت على الأرض أثناء ذلك، لأن من يلكم من اليمين يصحح وقفتك من يلكم من اليسار، ومن يركلك من الخلف يصحح وقوفك من يركل من الأمام، وهؤلاء كلهم سبق لهم أن دخلوا دورات مكثفة ومحترفة عن التعذيب، وغالبية دوراتهم كانت في مصر أو في هنغاريا وروسيا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا! مع العلم أن بعضاً من الضربات كانت تنفذ بطريقة مذهلة، ولم تنفذ هذه الضربات معي في حال أن عيوني مفتوحة وفي كل المرات كانت تنفذ والعيون معصوبة، وفي تخميني أن من كان يضرب لا يستخدم كفه وانما ثمة كف أكبر وأقوى بكثير من الكف الاعتيادية كما يحسّ بها المضروب،
وفي العادة يبتدأ التعذيب به، او حينما يحتدم ضغط التحقيق، والضربة هي عبارة عن ضربة كف على الوجه، ولكن هذه الكف تملأ الوجه كله أولاً ولا تحس إلا والعيون تتطاير منها أشبه ما يكن بالشرارات الكهربائية وسرعان ما تجد نفسك تتهاوى كالمحطم إلى الأرض، وفي اكثر من مرة كانت تؤدي إلى شعور كمن يسقط من الأعلى إلى الأسفل، ولكن لم أعرف سر ذلك هل هي ضربة تستهدف مركزاً للتوازن العصبي في الوجه؟ أو أنها جهاز يفعل ذلك؟ علما أن النظام لاحقاً جلب الكثير من أجهزة التعذيب التي تمارس التعذيب آلياً، وأياً كان فالضربة كانت مدوية ومؤلمة للغاية، وقد سألت العديد من الذين تعرضوا للتعذيب فأكدوا نفس الأمر.
وكيفما يكن فقد استمر التعذيب في بقية الأيام على هذه الشاكلة مع خفة في وتيرته تارة وشدة أخرى، ولكن كان من الواضح أنهم يفتقرون إلى أي معلومات جدية عن نشاطي، بحيث كانوا يتنقلون بالتهمة من الانتماء لحزب الدعوة أو الإخوان المسلمين أو حزب التحرير أو الحزب الفاطمي وأمثال هذه الأسماء، مما كان يعكس أنهم يخوضون على غير دراية، وكان أسلوبي هو النكران لكل معلومة يقدمونها حتى لو كانت عبارة عن صورة حقيقية، فلقد أبرزوا لي صورة لي مع الشهيد الحاج حامد العصامي والشهيد طه ناجي رحمهما الله وهما من الأصدقاء اللصيقين جداً، ولكني أتذكر اني قلت لهم أن هذه الصورة مأخوذة بالشارع أثناء سيري إلى البيت وقد يكون صادف مرور هؤلاء، ومع كل الوضوح في علاقتنا فنحن كنا أبناء منطقة واحدة ومدرسة واحدة وصف واحد ونلتقي يومياً في جامع براثا حيث نصلي ونقضي فترة المساء كلها هناك، وكثيراً ما كنا نخرج سوية على الدراجات في يومي الأحد والأربعاء إن لم تخني الذاكرة وبشكل رتيب لحضور محاضرات سماحة الحجة السيد محمد مهدي الصدر رضوان الله عليه في حسينيته في الكاظمية، وغالباً ما كنا نقضي ليالي الجمعة في كربلاء غير ان النكران كان يجعلهم يتركون السؤال،
وفي مرة قدموا لي صورة لي في أحد بساتين المدائن، وكانت عادتنا أن ننظم رحلات ترفيهية يتم فيها التحدث مع من يأتي معنا في هذه السفرات بأمور الإسلام والتدين وما إلى ذلك من المواضيع، وصادف في تلك اللحظة التي صوّر فيها مأمور الامن الذي جاء إلى مكاننا في احد البساتين أن طلبت من الموجودين أن يخفضوا رؤوسهم ولذلك حين أبرزوا الصورة أنكرت أن أكون أنا فيها، وما من شك أن ذلك كان يكبّدني مزيداً من الاذى، ولكن بدأت أعتاد على التعذيب، وما عدت مهتماً كثيراً به، فالجلد تم تدبيغه وما عاد يضيره أن تضاف له هراوات جديدة! ولكن النكران كان مهماً للغاية لأن التورط في أي معلومة سيعني فتح آفاق جديدة من التحقيق، ومعه زيادة في سين وجيم ومعها كله زيادة في التعذيب، ولذلك كنت أنكر حتى لا أتورط بما يستتبع عدم الإنكار، أو ما كنت أسميه: أحذر من ذكر الألف لأن ذكر الألف يجرك إلى أن تصل إلى الياء، ولعلي كتبت ذلك في سجن لاحق لي في عام 1979 على حائط زنزانتي الإنفرادية في مديرية أمن بغداد انصح بها من يأتي من بعدي.
من الواضح أن بدر الدليمي كان يفقد أعصابه معي فلقد مضى قرابة العشرة أيام ولم يستطع أن يحصل على حرف واحد مني يمكن أن يستفيد منه، ولعله في اليوم العاشر وكان قد بلغ التعب مبلغه كان يتحدث معي في آخر وقت الدوام قريباً من باب غرفته بعد أن أخرجوني من غرفة التعذيب، وعلى حين غرّة اشتعلت النيران في وجهي!
يتبع في الحلقة القادمة.
https://telegram.me/buratha