حميد الشاكر
منذ أن صنع الانبياء عليهم السلام حسب المفهوم القرءاني هيئة الدولة في التاريخ وحتى اليوم لم تزل أهم وظيفة لهذه الهيئة المسماة حكومة أو دولة ( بغض النظر عن التمايزات الحديثة بين المصطلحين ) بعد الدفاع والحماية للمواطنين هي وظيفة (التخطيط والادارة) فالدولة من ضمن وظائفها وكذا مسؤلياتها الطبيعية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية هي وظيفة التخطيط لادارة المجتمع تنمويا واعماريا بصورة تضمن الاستقرار الاقتصادي والامني وكذا القانوني والثقافي لجميع طبقات وفئات المجتمع داخل اطار الدولة ، فالتخطيط بتعبير مختصر جدا بالنسبة لأي حكومة ودولة هو الخريطة التي توضح الطريق ومراحله واهدافه وكيفية التعامل مع مستجداته امام المواطن والمسؤول داخل اطار الحكومة ليكون الجميع السائل والمسؤول داخل هذا الكيان على بينة من ربه لينجو من نجى عن بينة ويهلك من هلك عن بينة ...... !!.
والحقيقة ان السؤال حول دولتنا العراقية الجديدة اليوم ، وهل هناك مؤسسة او جهة معينة او هيئة في داخلها عملها الاصيل هو التخطيط لمسار الدولة والمجتمع في الحاضر والى المستقبل ؟، من الاسألة التي تعتبر حيوية ومن صميم او جوهر بناء هذه الدولة التي لهذه اللحظة لايبدو عليها أمارات تخطيط جيّد وواقعي ونشط ومثمر .... مما يدفعنا للاعتقاد ان دولتنا العراقية الجديدة بعد الاطاحة بدكتاتورية دولة الفراعنة الفوضوية الصدامية المقبورة لم تزل غير ملتفتة بجميع كوادرها الحكومية التنفيذية العاملة الى اهمية معنى التخطيط وكيف ان التخطيط الجيّد هو الذي يخلق او يصنع دولة جيدة ؟، وكيف ان الدولة بلا تخطيط هي مجرد عصابة حكومة لاتدرك معنى لقيام الدولة ؟، وبالمحصلة كيف ان من اهم عناصر هوية اي دولة هو ان يكون فيها تخطيط اجتماعي واداري وسياسي واقتصادي يتجاوز في خطوطه جميع العناوين ماعدى عنوان الادارة الاجتماعية الناجحة لقيادة المجتمع الى بر الامان والتقدم والتطور والوحدة والقوّة ؟!.
نعم في دولتنا العراقية الجديدة اليوم هناك (وزارة للتخطيط) ، وهناك جهاز رئاسة وزراء حكومية تقوم بوظيفة تنفيذ كان المفروض ان تكون وظيفة تنفيذ التخطيط في هذه الدولة ....الخ ، لكن وماهو ملاحظ من خلال التجربة والاحتكاك والاطلاع المباشر على سير دولتنا العراقية الجديدة لايبدو ان هناك وعي لعملية الربط الحقيقية داخل هذه الدولة بين النظرية والتطبيق او بين التخطيط والادارة التنفيذية ، ولذالك تصاب مشاريع دولتنا العراقية الجديدة وفي جميع جوانبها الادارية الحيوية بالفشل الذريع من منطلق ان الدولة التي تسير بلا تخطيط ، وكذا الدولة التي تسير وفق تخطيط سيئ وفاشل ولاواعي ، فحتما انها ستصل الى نتيجة الفساد وعدم تحقيق الاهداف والوصول الى النتائج الايجابية !.إن ما تعاني منه الدولة العراقية الجديدة بصورة اكثر تحديدا هو ليس فقدان التخطيط السليم بالمرّة ، ولكن معاناة هذه الدولة انها تعتمد على تخطيط سيئ او مشوش او متضارب او غير مركزي او في كثير من الاحيان غير بنائي مما يصنع من خطوات الدولة تعثرات لها اول وليس لها اخر ، ففي ( مثلا ) مشاريع الاعمار العراقية وبغض النظر عن كل المبررات والتي الكثير منها واقعية في اعاقة اعادة الاعمار العراقية الجديدة الشاملة كالارهاب ومخططات الخارج العراقي لتهديم ماتبنيه هذه الدولة ومؤامرات هذا الخارج على استقرار الداخل العراقي ..... بغض النظر عن ذالك كله ، نرى انه ومن الجانب الاخر في دولتنا العراقية هناك سوء تخطيط واضح لمشروع الاعمار العراقي الشامل مما يتسبب وتلقائيا بالنتائج التالية :
اولا : باهدار المال العام بشكل فوضوي وغير منظم ، ويخلق تبعا لذالك ظاهرة الفساد الاداري والاعتداء على اموال الشعب !!.
ثانيا : ومن ثم فشل الدولة في استثمار هذه الاموال بشكل مقنن ومخطط ومثمر وبشيئ ملموس وواضح ومقنع للشعب العراقي في جانب الاعمار والتنمية من قبل هذه الدولة !.
والواقع ان تجربة الاعمار الفاشلة في العراق الجديد افرزت لنا تلقائيا عدة تصورات يمكن لنا رصدها على اساس انها هي السبب المباشر في فشل مشروع التخطيط والادارة في هذه الدولة ومن اهم هذه التصورات هي :
اولا : ان التخطيط الاعماري لم ينبني داخل الدولة العراقية على اساس المرحلية المكانية التي تخطط لاعمار نقط محددة وبعد الانتهاء من انشاءها التحول لنقط اخرى جديدة وهكذا ، وانما اعتمد التخطيط على البناء الافقي الواسع ليشمل جميع الملائة العراقية المخرّقة من جميع الجهات مما جعل من شبكة العراق الواسعة امتصاص طبيعي لهواء الاموال العراقية التي لاتستطيع لاهي ولاغيرها من اموال العالم بناء ماهدمته الحروب والحكم الصدامي الفاشي لمدة اكثر من اربعين سنة مستمرة ارهابيا حتى هذه اللحظة !.
بمعنى آخر : كان المفروض على هيئة التخطيط داخل الدولة العراقية وكذا جهازها التنفيذي الحكومي ان تضع نصب اعينها ان الدمار الاعماري الشامل داخل العراق والذي خلفته سياسات الاستبداد والحروب والدكتاتورية البعثية لايمكن اصلاحه بالتخطيط الافقي الشامل ليشمل جميع مناطق العراق ومن الجنوب الى الشمال على حد سواء !.بل كان ينبغي ان يكون التخطيط مرحليا ومتدرجا ومحددا ومن نقطة تتبعها نقطة اخرى وهكذا لتكون عملية الاعمار اولا منظمة وثانيا سائرة على طريق واضح وملموس للشعب العراقي ، وليكن مثلا البداية الاعمارية من محافظة البصرة باعتبار انها المحافظة العراقية الاكثر تضررا في العراق من جراء حروب النظام المقبور السابق ، وليوظف التخطيط والاموال العراقية لهذا الهدف المحدد في الاعمار مع عدم اهمال باقي المحافظات العراقية الاخرى بطبيعة الحال ولكن ليبدأ التركيز اولا على نقطة محددة اعماريا وتنمويا ، وبعد الانتهاء من بناء البنية التحتية لهذه المحافظة الانتقال فيما بعد لمحافظة ذي قار ومن ثم العمارة ... وهكذا الى الوصول الى اخر نقطة عراقية شمالية في كردستان العراق !!.نعم مثل هذا التخطيط وهذا التنفيذ سيكون ثورة حقيقية في التنمية والاعمار العراقي الذي ، اولا يركز عملية التخطيط بشكل عملي وفعّال وواعي ومحدد ، وثانيا يحصر عملية الانفاق الحكومية والاموال العامة للشعب العراقي في دائرة لايمكن للفساد النفوذ والتلاعب بها ، وثالثا يجعل من النموذج الذي سوف يقام في هذه المحافظة او تلك من محافظات العراق انموذجا يحتذى في باقي محافظات العراق الجديد ، ودافعا محركا لباقي المحافظات ان تبدع اعماريا وتتسابق تنمويا في هذا المجال .......الخ !!.
وصحيح هناك بعض الاشكاليات السياسية التي سوف تعيق مثل هذا المشروع في التخطيط والتنمية والاعمار داخل الدولة العراقية لاسيما منها اشكاليات المخربين الذين سيرّوجون لاشاعة الاستئثار بالثروة من قبل الدولة والحكومة لمنطقة دون اخرى ليدخلوا المشروع العراقي كله بدوامة الطائفية لاعاقة الاعمار فقط ... وغير ذالك ، ولكن التخطيط لايعرف المحاصصة وكذا التنمية والحرص على الاموال العامة لاتدرك ايضا مفهوم النوايا السيئة او الحسنة السياسية هنا او هناك ، بل ان التخطيط يدرك داخل الدولة اي دولة شيئا واحدا لاغير هو النتائج الايجابية على المدى البعيد للدولة وادارتها وللمجتمع واعماره وتنميته ، وهذا مايوفره التخطيط والتنفيذ المركز والمحدد والمبرمج والتدرجي داخل الدولة والمجتمع !.
ثانيا : لم يكن التنفيذ الحكومي ايضا في العراق الجديد لجديدية التجربة على العموم في عراق مابعد الدكتاتورية تنفيذا على مستوى المرحلة والطموح ، بل كانت هناك سياسة الانفجار المالي في توزيع الثروات العراقية بشكل غير مدروس ، وساعد على هذه السياسة المالية الفوضوية نظام المحافظات الذي اسنزف كل الموارد العراقية بلا تنظيم للادارات المحلية لهذه المحافظات او وجود تخطيط لديها لعملية الاعمار الجديدة ، مما جعل من خزائن هذه المحافظات مجرد عملية استنزاف استهلاكية للاموال العراقية العامة وبدون ان يكون هناك اي عمل اعماري وتنموي ملموس وحقيقي ، وهذا ليس فقط بسبب ان هذه المجالس المحافظاتية هي تجربة حديثة وغير ناضجة في العراق الجديد لاغير ، ولكن ايضا بسبب ان هذه الطريقة من توزيع الثروة لايحقق بحد ذاته اي عملية اعمارية او تنموية ملموسة وبشكل جدي على المستوى العراقي العام ، مما انتج بطبيعة الحال فساد وهدر للمال العام وكذا فراغ تنموي واعماري كبير دلل على فشل الدولة في الاعمار مع ان هذه الدولة او الحكومة هي من الاساس تنازلت عن وظائفها التنموية لتجربة المحافظات المحلية الحديثة والمفتقرة للتجربة بالاساس !.
ثالثا : نتج من كلا الظاهرتين ( سوء التخطيط الفوضوي ، وسوء توزيع الثروة الحكومي ) صناعة ظاهرتين غاية في الخطورة على الدولة العراقية الجديدة ، وهما استفحال الفساد والاعتداء على المال العام من جهة ، وتسرب كثير من اموال الشعب العراقي الى خزائن ارهابية اصبحت تموّل الارهاب في العراق علنا من خلال توزيع الدولة لهذه الاموال الى محافظات عراقية هي في الاساس وفي بداية المشروع العراقي الجديد لم تكن خاضعة لسلطة الدولة العراقية او مؤمنة بمشروع الدولة الجديدة !.وعلى هذا الاساس اتحدت كثير من العوامل في داخل الدولة العراقية ( سوء تخطيط ، سوء ادارة ، سوء ارهاب وجريمة منظمة ) لافشال مشروع الاعمار والتنمية داخل العراق ، مما جعل من صورة الدولة العراقية صورة سيئة وفاشلة تماما في الادارة الراشدة والتخطيط السليم !.
الخلاصة : المطلوب اخيرا من دولتنا العراقية الجديدة ان تهتم في دورتها القادمة ونحن مقدمون على انتخابات جديدة في عراق الخير والتقدم والديمقراطية ان تهتم بجانب التخطيط الآني والمستقبلي وان تكوّن مراكز دراسة وتخطيط في كل وزارة داخل الدولة لجميع الجوانب الحياتية للشعب العراقي وعلى جميع الاصعدة العراقية : الامنية على رأس القائمة ومن ثم العمرانية والتنموية وكذالك الاعلامية الثقافية ، فمن وظيفة الدولة تثقيف الشعب على الولاء للوطن وحبه والاخلاص له ولمشروعه ولمنجزاته ، ومن ثم لتدرك هذه الدولة ان اي عمل وحركة وتنفيذ بلا تخطيط مآله ونتيجته الطبيعية هي الفشل المحتم الذي سيقود بطبيعته الى اهتزاز ايمان المواطن بكفائة دولته والقائمين على ادارتها وحقه فيما بعد بالاطاحة بها او تغييرها بصورة جذرية !!.نعم التخطيط المركزي المحدد والمتدرج والمرحلي والواضح والناجح بالحتم سيصنع دولة وحكومة وحركة ومستقبل ناجح وتنموي ومتطور وملموس ، والعكس في الفوضوية والتبذير والتخطيط الغير واعي والغير واقعيٌ سيخلق الدولة والحكومة والادارة الفاشلة .
https://telegram.me/buratha