علي محمد البهادلي
إن المجتمعات التي تمر بحقب سوداء ومظلمة تحت سلطة الحكام الدكتاتوريين ، تتعرض لشتى أنواع البلاء من حروب ونقص في الأموال والأنفس والثمرات ، مما يؤدي إلى انهيار البنية التحتية لثقافة وقيم ذلك المجتمع ، ويشيع فيه الجهل والفقر والعنف والسلوكيات الأخلاقية المبتذلة ، فإذا ما حصل تغيير في نظام الحكم فيتوجب على الواعين في المجتمع أن يقوموا بحملة استثنائية لغرض ترميم ما هشَّمه الوضع السابق ، وبالتأكيد سيكون الدور الأكبر يقع على عاتق من يمتلك الإمكانات المادية والعلمية الفنية وهو ما ينطبق على الحكومة والمؤسسات الدينية والثقافية .
إن المجتمع العراقي مرَّ بأعتى الدكتاتوريات التي شهدها التأريخ والمتمثلة بعصابة حزب البعث و"قائده الملهم" صدام ، فهؤلاء لم يدعوا شيئاً في المجتمع إلا وأتت عليه آلتهم الجاهلية الرعناء وأضفت عليه من جهلها وبداوتها ، فالتعليم والأدب والفن والسياسة والرياضة والعسكر كلها أمور يحتل فيها القائد "الضرورة" المرتبة الأولى وبدون منافس ، فمورست سياسة التجهيل وأُعدمت الكوادر المثقفة ، أما من نجا من قبضة الحزب ، فقد هاجر إلى البلدان الديمقراطية ليمارس من هناك نشاطه بحرية وآمان ، أما من بقي في الداخل فهو في سجن مرعب لا يستطيع فيه التفوه ببنت شفة ، وبعد عدة عقود من هذا الوضع المزري نشأ جيل جديد ألقت مصائب الدهر وطوارقه بظلالها عليه ، فهو جيل لم تُفتَح عيناه إلا على مناظر "الزيتوني وصور من المعركة" وأذناه لم تطرب لأشعار أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري ، بل اخترقتها أصوات المدافع والقنابل وأشعار" رعد بندر وعباس جيجان" ، ولم يعتد شبابه ارتياد المنتديات الأدبية أو المكوث في المكتبات العامة بل اعتاد لبس البزة العسكرية و"التطوع" في الجيش الشعبي أو الدخول في معسكرات ما كان يُسمَّى بيوم النخوة وجيش القدس ، فماذا نتوقع من هكذا جيل ؟! بالطبع سيتصف هذا الجيل بعدة سمات منها : الفقر والأمية وانحسار دور المثقفين ( هذا إذا بقيت منهم باقية ) وتفشي سلوكيات بدائية قبيحة كالعنف وانعدام ثقافة الحوار وسماع رأي الآخر ، وبروز النعرات الطائفية والعشائرية إلى السطح وانعدام روح المواطنة ، وهذا ما بدا واضحاً على المجتمع العراقي بعد التغيير الذي حصل في نيسان 2003 .
وعلى الرغم من وجود أكثر من عامل أسهم في كبح بعض الآثار التي خلفتها تلك الحقبة السوداء إلا أن الطابع العام هو ما ذكرته من نتائج طبيعية لمجتمع عاش في ظل نظام استبدادي بدوي جاهل يحكم بالحديد والنار . فعلى جميع الجهات المعنية بالأمر أن تقوم بحملات استثنائية تشبه حملات الإغاثة والإسعاف التي تقوم بها الدول أبان حصول النكبات والكوارث الطبيعية ؛ لئن ما تعرض له المجتمع العراقي يفوق حجمه حجم ما تخلفه الكوارث الطبيعية ولا أبالغ في هذا ، فالنتائج التي تلت سقوط الطاغية صدام خير شاهد على ما أقول ، والخسائر التي تعرض لها الشعب العراقي تتجاوز الخسائر البشرية إلى ما هو أشمل ، فإلى متى سيكون الهاجس الأمني هو المحور في اهتمامات الحكومة العراقية ، فترميم شخصية ونفسية الفرد العراقي هي أكبر أهمية من أي ملف آخر، وأكاد أجزم أن المشاكل الأخرى إما أنها مرتبطة بهذا الموضوع أو أن معالجتها تقل أهمية عن هذا الملف ، فليشد الساسة العراقيون سواعدهم وليركزوا على ترميم نفسية الفرد والمجتمع العراقي قبل أن يتم إعمار الشوارع والبنايات الحكومية ؛ لئن بناء الإنسان يجب أن يسبق إعمار البنايات ، فهي لم توجد إلا لخدمته وراحته .
ولا ننسى الإشارة إلى دور المؤسسات الدينية التي تمتلك قدراً لا بأس به من الإمكانات العلمية والروحية والمادية التي لو أُحسِن استخدامها لسدت ثغرة من الثغرات المهمة ، لا سيما أن موقعها الروحي يضفي على تحركها بين الجماهير طابع القداسة وربما الإلزام فيتجه المجتمع نحو الإصلاح واستعادة قيمه وثقافته المستلبة ، أما مثقفونا فهذا أوان بروزهم وعليهم أن يعوا المسؤولية التأريخية والأخلاقية الملقاة على عاتقهم ، وأن لا يغردوا في سماء لندن أو ستوكهولم ، فبغداد هي الشجرة التي يجب أن يعزفوا من على أغصانها نشيد الثقافة والحضارة . .
https://telegram.me/buratha