مقال لوزير التخطيط الدكتور علي بابان
معيار صائب لا يخطيء تستطيع أن تحكم به على حيوية الأمة وعبقريتها وسلامة مسيرتها.. ذلك المعيار هو إحترامها للوقت وإدراكها لقيمته.. فالأمم الحية هي في سباق لا يهدأ أو يتوقف مع الزمن.. ولكل يوم لا بل لكل ساعة ودقيقة موضع في حساباتها وهي تدرك أنها في تنافس مع الأمم الأخرى لتأكيد تفوقها وضمان جلوسها على القمة.... وعلى العكس من هذه الصورة المشرقة.. صورة أخرى مقابلة لأمم ابتليت بالكسل.. وضمور الطموح.. وخفوت الهمة لا تحسب للزمن حساباً.. ولا تراه شاهداً لها أو عليها.. والوقت عندها يمر هدراً وهي لا ترى في ذلك ضيراً أو نقيصة...
من المؤسف حقاً أن تتراجع قيمة الزمن في حياتنا.. وأن تهدر من حساباتنا.. فتمر السنون تلو السنين دون أن نأبه لذلك.. وتضيع الفرصة بعد الفرصة دون أن نحرك ساكناً فيما ننظر للحياة على أنها منجم للفرص لا ينضب وهو وهم خطير قد تفيق على خطئه الأمم بعد أن تكتشف بأنها قد أضاعت الكثير مما لم يعد بالإمكان تعويضه.. نظرة واحدة إلى حال الدولة العراقية اليوم نجد أنها دخلت مرحلة ( إنعدام الوزن ) بسبب قرب الإستحقاق الإنتخابي القادم وإستعداد الجميع للوفاء بهذا الإستحقاق.... يحدث هذا في وقت أصبحت فيه الدولة بأشد الحاجة للقرار.. والقرار الحاسم خصوصاً في مسائل الإقتصاد وبناء الدولة... قبل ذلك كان لدينا إنتخابات مجالس المحافظات وحدث الكثير من ضياع الوقت حتى إستقرت المجالس الجديدة... وقبل هذا وذاك تعثرت قرارات وضاعت قوانين في متاهات الزمن وحمى التجاذبات السياسية.. تعطل قانون النفط والغاز لمدة ثلاثة أعوام فيما القطاع النفطي بأمس الحاجة له من اجل أن نبدأ العمل في تطوير هذا القطاع الذي يشكل المفتاح للإقتصاد العراقي والمنطلق الطبيعي له... وغاب قانون الموارد المالية الذي كان سيشكل أساساً حقيقياً للحكم المحلي في العراق ويحدد آفاقه وحدوده... تلك الآفاق والحدود التي هي اليوم غامضة ومتداخلة وبسبب ذلك يدفع البلد كله وعملية التنمية فيه اثماناً باهظة.. وقس على ذلك الكثير.. والكثير من القوانين الهامة والقرارات الحاسمة... غاب الوضوح.. والحسم عن حياتنا وباتت الدولة ومعها المواطن تعيش في مساحة ضبابية تاه فيها الطريق واضطربت البوصلة وكانت نتيجة ذلك كله.. خسارة للوقت.. وإهدار للفرصة... وزيادة في المعاناة.
في كل عام تتكرر حكاية تأخير الميزانية بضعة أشهر... ثم يلي ذلك تأخر في إطلاق الأموال.. وينقضي العام ويطالب المسؤول وزيراً كان أم محافظاً بأن يقدم سجل إنجازاته في ذلك العام فيضطر للإسراع بأنفاق الأموال على غير هدى.. وبلا منهجية سليمة.. وتكون الحصيلة مزيداً من الإهدار.. والخسارة.. وضياع الفرص... في بلد كالعراق... نزف الكثير من موارده.. وتفاقمت معاناة مواطنه.. ينبغي أن نسابق الزمن بالفعل وأن يتحول وطننا إلى ورشة عمل لا تهدأ... ولكننا ومع الأسف نجد حالة من الإسترخاء.. وإسقاطاً لقيمة الزمن.. وقناعة خاطئة بأن كل الخسائر يمكن تعويضها.. وكل الهدم يمكن ترميمه.. وقد يكون ذلك صحيحاً والسؤال هنا.. كم من المال والزمن سوف نخسره للتعويض والترميم والإصلاح...؟قد تكون فاتورة ذلك باهظة وقد تدفع الاجيال القادمة أثمانها دون أن يكون لها ذنب أو جريرة في وقوع ذلك...
مهمتنا في إعادة الإعتبار لـ ( قيمة الزمن ) في المجتمع العراقي كقيمة تنموية.. وإنتاجية ليست بالمهمة السهلة.. فأصلاح القيم عملية شاقة ولكن لم يعد لنا خيار في ذلك في مجتمعنا اليوم بعد أن أهتزت المنظومة القيمية وأضطربت إضطراباً شديداً بعد نيسان 2003... الدولة تستطيع أن تضرب المثل وأن تقود المجتمع في هذا الإتجاه من خلال ( رد الإعتبار ) للزمن في قراراتها.. ومواقفها.. وسياساتها ومن خلال نبذها سياسة التأجيل... والإرجاء... والإبطاء..العراق اليوم لم يعد عنده من الوقت ما يضيعه وإذا كانت هناك عملية سياسية لابد فيها من التجاذبات.. والتنافسات.. والصراعات فلنعزل عملية البناء عن ذلك كله.. ولتمض التنمية في طريقها دون أن ترتهن للسياسة والسياسيين.. أما الإنتظار حتى تحسم الأمور في ساحة السياسة فقد يطول.. ويطول.. فيما المجتمع والمواطن ما عاد يتحمل الإنتظار بعد أن تفاقمت معاناته وبلغت حدوداً لا تطاق.
https://telegram.me/buratha