د. كاظم الجنابي
لايوجد شعب وامة من شعوب و امم الارض اثّر الدين في سلوكها وممارستها وحياتها اليومية مثلما هو شعب بلاد الرافدين. فما ان وصل الاسلام الى العراق قبل اربعة عشر قرنا حتى احتضن الشعب الدين واحتضنه الدين ليكونا معا مزيجا منصهرا متصاهرا، شعب يحمل راية هذا الدين ودين يصقل الشخصية ويحفظ الهوية حتى طغى الدين على القبيلة والعشيرة بل وجعل الجميع وحدة متماسكة. وقد اعتاد هذا الشعب ان يعيش في ظلال دولة قوية تسندها قوانين تنظم حياته كالبابلية والاشورية مرورا بالدولة العربية الاسلامية. توالت المتغيرات على شعب العراق فتارة تتمازج السياسة والدولة والدين فينشأ الرقي والازدهار وتارة تتعالى هذه المفاهيم على بعضها وتتصارع فيما بينها ويكون الانحطاط.وعلى الضفة الاخرى كان العراق بمزيجه المختلط الديني والقومي والعرقي ساحة ملتهبة تمثل مركزا وساحة لصراع القوى والامبراطوريات في المنطقة، وكان قدر العراق كونه يقع على تخوم تلك الصراعات او في دوامتها ان يعاني من تلك الصراعات ويدخل فيها شاء ام ابى وبالتالي كان الانسان العراقي هو محور هذا الصراع المستمر منذ قرون وادواته بل وكان في اغلب الاحيان هدف تلك الصراعات.
مع بدايات القرن العشرين وبداية تاسيس الدولة العراقية الحديثة ومع طغيان الوجه السياسي على الديني في ادارة الدولة، ونتيجة للانحرافات التي صاحبت عملية بناء وتاسيس الدولة بدأت تظهر وتنشط صراعات مجتمعية منها طبقية واخرى قومية وعرقية واخطرها المذهبية التي تهدد بنية المجتمع وتماسكه. تفاقمت تلك الازمات و الصراعات الاجتماعية ولم تنجح السياسة في فك رموزها. وفي خضم تلك الازمات والصراعات كان الانسان العراقي يلجا الى الدين باحثا عن مخرج.
تنتشر في العراق المساجد والحسينيات والكنائس والمعابد والمقامات الدينية في طول البلاد وعرضها، وتنتشر المقامات الدينية لانبياء واوصياء وائمة وصالحين حتى ليندر ان ان تجد قرية صغيرة الا وفيها مايذكّر الانسان بدينه، ويكثر رجال الدين من شتى الملل والنحل ويؤمّ دور العبادة هذه جموع هائلة يوميا تقترب من الملايين في المناسبات الدينية وغيرها، تلقى الخطب والمواعظ والارشاد كما وتقوم وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة بجهد هائل في هذا المجال. كما واخذت الكتب والمؤلفات الدينية مكانها في هذا الموضوع حتى فاقت تلك الكتب والمؤلفات في اعدادها على كل ماعداها مجتمعة.
مع كل هذا الجهد الهائل الموجه لخلق المواطن الصالح ومع كل انعطافة في الحياة سياسية كانت او غيرها ومع كل ضربة تتلقاها مصالح الانسان، يخرج الانسان من عباءته الدينية ويهب يدافع عن مصالحه الذاتية. جاءت الامتحانات العسيرة لشخصية الانسان العراقي مع دخول العراق في دوامة حروب وصراعات طويلة، اهلية منها وخارجية، وفي جميع هذه الصراعات خرج الانسان العراقي وهو يحمل في ذاته نواة صراعات شتى، واستشرت سلوكيات اكره الانسان على ممارستها. وباختصار كانت اخفاقات السياسة على مدى مايقرب من قرن من الزمان تتحول الى ازمات دينية وقومية وعرقية واقتصادية واجتماعية وغيرها وكانت هذه الازمات والصراعات تمثل تهديدا حقيقيا لتماسك المجتمع.
الانسان العراقي بطبيعته يميل الى التديّن والالتزام بالدين تظاهرا كان ام سلوكيا، قرون من الزمن اثرت في شخصيته وسلوكه. ولكن السؤال المحير الذي نواجهه هو كيف نفسر تفشي ظواهر كثيرة حاربها ولايزال يحاربها الدين بل ويوجه تجاهها جميع الامكانيات المتوفرة لمحاربتها؟ كيف نفسر تفشي ظاهرة الفساد والرشوة في جميع مرافق المجتمع؟ أين ذهبت مباديء الخير والتعاون والتسامح والمودة والمحبة وغيرها؟ وهل ذهبت تلك الجهود ادراج الرياح؟ وكيف نفسر نزوع الانسان الى النهب والسلب والسرقة وهتك الاعراض؟ والادهى من ذلك كيف يمكن للانسان الذي نشا في ظل تعاليم الدين ان ينزع الى القتل باسم الدين ودفاعا عن الدين كما يدّعي؟ هل نحن امام ظاهرة تراجع الدور السلمي المسالم للدين في بناء الانسان؟ ام هي ظاهرة طبيعية فما ان تتضارب مصالح الانسان مع مصالح المجتمع والدين حتى تطغى المصلحة الذاتية على كل شيء؟ وهل نحن امام ظاهرة انفصام العرى الوثيقة بين الدين ومصلحة الانسان الدينية والدنيوية ام انها ظاهرة قائمة ولكنها مستورة مع هدوء المجتمع؟
السؤال المطروح هو هل تستطيع الدولة العراقية من استغلال واستثمار التاثير الديني في المجتمع العراقي وتوجيهه بشكل يتلائم مع طروحات بناء دولة حديثة؟ وهل سيكون للقيادات الدينية ورجالاتها دورا ايجابيا مثلما هو معهود في الحفاظ على تماسك المجتمع و مثلما هو موقفها في العديد من المحطات المصيرية؟ وهل نحن قادرون على اعادة اللحمة بين مصلحة الانسان الذاتية ومصالح المجتمع العامة؟ فقد ولد الانسان العراقي وفتح عينيه ونشأ على صراع المصلحة الذاتية مع مصلحة المجتمع العليا، فهل تكفي الفتاوى والمواعظ لتغيير سلوك الانسان؟
نعم كان للغزو الثقافي ومصالح الاخرين دور في محاولة اثارة النعرات ومحو الشخصية الدينية، ولكن السؤال هل كانت هذه الشخصية افضل حالا قبل الغزو؟ وكيف نفسر التحولات السلمية في المجتمعات البعيدة عن الدين كما في المجتمعات التي تبنّت راغبة ام مكرهة النظم الشيوعية بعد انهيار تلك النظم؟ وكيف نفسر السلم الاجتماعي السائد في البلدان التي تتبنى النظم العلمانية في علاقة الدين بالدولة؟
حدثت المجازر في مجتمعنا في الاونة الاخيرة بأسم الدين بشكل مريع، قتل الاطفال والنساء والشيوخ وشردت العوائل وهتكت الاعراض تحت اسم الدين ودفاعا عن المذهب والاهل كما يدعون، رفع المتقاتلون الاية القرانية "واعدّوا لهم ما أستطعتم من قوة ومن رباط الخيل... الى اخر الاية الكريمة" فوق اسنّة الرماح وتركوا خلف ظهورهم ارفع واسمى مباديء الاسلام المتمثلة بالاية الكريمة " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا". لماذا يهب الكثير الى تلبية دعوات التكفير والقتل وممارسة العنف ولانرى ذلك عنما يتعلق الامر بالتآخي والمحبة و دفع الزكاة والصدقات والخمس وغيرها؟
والسؤال الاخيرهو هل يصلح الدين ما افسدته السياسة على مدى قرن من الزمان؟وهل ان هناك امكانية تعاون بين الدين والسياسة لتضميد الجراح وبناء العراق؟ الجواب نعم وان كانا مكرهين.
https://telegram.me/buratha