بقلم: د. حازم الببلاوي عن جريدة الاهرام ليوم الاحد 5-7-2009
يعتقد البعض ـ وأنا منهم ـ أن مصير الأمة العربية متشابك ومترابط, وأن ماتحققه بعض دولها من خير أو مايصيبها من شر مايلبث أن ينعكس علي بقية أجزاء الأمة خيرا أو شرا. ولست أشك في أن أكبر خسارة منيت بها الأمة العربية المعاصرة في مجموعها جاءت عقب واقعتين, الأولي هي هزيمة1967, والثانية غزو العراق للكويت في1991. ولم تنج دولة عربية واحدة من التداعيات السيئة لهاتين الواقعتين, وأكاد أقول إننا لم نفق من وقعهما بعد.والآن, وحيث بدأت القوات الأمريكية بالانسحاب من العراق وفقا لوعود الرئيس أوباما, بدأت تطفو علي السطح من جديد قضية التعويضات التي فرضت علي العراق لدولة الكويت, وهي تعويضات اعتمدت بقرارات من الأمم المتحدة بناء علي ضغوط شديدة من الدول الغربية.
لقد كانت دولة الكويت ضحية لغزو بربري غير مشروع, وكان من الواجب الوقوف الي جانبها, كما فعل معظم العرب ودول العالم آنذاك. ولكن بعد مضي مايقرب من عقدين علي تلك الأحداث, تغيرت كل معالم الصورة. لقد سقط نظام صدام حسين وانتهي, وعرف العراق أياما قاسية مزقت شعبه وفرضت عليه آلام وتضحيات شديدة وغالبا ظالمة. والحقيقة الوحيدة الدائمة هي أن الكويت الجارة الصغيرة ستظل قائمة علي حدود العراق الجنوبية, أما الخلافات السياسية بين القطرين فأمور عارضة تجيء وتذهب. ويظل الشعبان العراقي والكويتي جارين لهما مصالح مشتركة ومستمرة في نقاء العلاقات بينهما وإبعاد كل أسباب الظلم والكراهية.
السؤال هو كيف ننظر الان الي تلك التعويضات؟ هل يكفي أن نتذكر ماضيا أليما واعتداء وحشيا غير مبرر؟ أم يجب أن ننظر لمستقبل دولتين جارتين سوف تعيشان دائما وأبدا في ظل هذا الجوار؟ أليس من المصلحة ان تصفو النفوس, خاصة ان الشعب العراقي نفسه كان ضحية لأوضاع مأساوية, حيث خضع لحكم قاس أيام صدام, ثم عاني من نكبة بعده لا تقل ضراوة.
المسألة ليست أخلاقية بحتة بل إنها في صلب السياسة, وتاريخ العالم الحديث يخبرنا بتجربة مماثلة كان التعنت والتشدد في فرض العقوبات وخاصة التعويضات علي الطرف المعتدي وبالاعلي العالم كله, وليس علي الجاني فقط. ولنا في تجربة التعويضات الألمانية التي فرضت علي ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولي درس ينبغي أن نعيه تماما.
بدأ مسلسل العداء الفرنسي ـ الألماني في بداية القرن التاسع عشر حين مزق نابليون الولايات الألمانية وجمعها في اتحادات هزيلة خاضعة للنفوذ الفرنسي, فانتهز بسمارك ضعف الحكومة الفرنسية مع نابليون الثالث في1870 واستدرجه إلي الحرب وهزمه بعد أيام, وفرض علي فرنسا تعويضات مالية باهظة وسلخ منها الألزاس واللورين. ولم ينس الفرنسيون الهزيمة أو التعويضات, فدخلوا مفاوضات السلام بعد الحرب العالمية الأولي بعقلية الثأر والانتقام, ولذلك أصر الحلفاء ـ بضغط من الفرنسيين ـ علي فرض تعويضات هائلة في معاهدة فرساي علي ألمانيا مع إعادة الإلزاس واللورين لفرنسا.
وقد كان الدافع الأساسي لطلب هذه التعويضات ـ خاصة لدي الفرنسيين ـ هو الرغبة في الانتقام وتوقيع العقوبات علي الشعب الألماني دون مراعاة لحدود ما يمكن الحصول عليه. وقد وصف الاقتصادي الإنجليزي المعروف كينز ـ وكان عضوا في الوفد البريطاني في هذه المفاوضات ـ كليمنصو( الرئيس الفرنسي) بأنه رجل عجوز ووقور وإن كان يعيش في وهم اسمه فرنسا, مع خيبة أمل اسمها البشرية. وهكذا تغلبت عواطف الانتقام والثأر علي هدوء العقل ورجاحته, وفي هذا الجو من التعنت والتشدد لم يملك كينز ـ وكان موظفا صغيرا ـ إلا أن يقدم استقالته تعبيرا عن الاستياء والاشمئزاز, أصدر كتابا بعد ذلك عن النتائج الاقتصادية للسلام تنبأ فيه بفشل هذه الجهود في تحقيق الاستقرار في أوروبا أو العالم.
وقد بدأت تلك المفاوضات بمطالبات مبالغ فيها من الفرنسيين, واستقر الأمر علي تحديد التعويضات بمبلغ12,5 مليار دولار بالاضافة إلي الفوائد( وهو ما يعادل الناتج الاجمالي لألمانيا) وبحيث تدفع ألمانيا ما بين600 ـ800 مليون دولار سنويا للحلفاء لمدة سبع وثلاثين سنة ثم أقل من400 مليون دولار سنويا لمدة اثنتين وعشرين سنة تالية. وبمعني آخر أراد الحلفاء إلزام الألمان بدفع تعويضات لمدة70 سنة بعد انتهاء الحرب, تنتهي في1988, أي لثلاثة أجيال بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي.
وماحدث بعد ذلك معروف. فقد عرفت ألمانيا في بداية العشرينات تضخما فادحا حيث انخفض سعر المارك من4,2 بالنسبة للدولار قبل الحرب1914 إلي65 ماركا للدولار في1920, ثم انهار إلي620 ألف مارك للدولار الواحد في أغسطس1923 ثم إلي ما يعادل630 بليون مارك للدولار في نوفمبر من نفس السنة, أي أن الأسعار ارتفعت في أربعة شهور مليون ضعف. وبعد ذلك عين الدكتور شاخت رئيسا للجنة العملة حيث أصدر عملة جديدة ليحل محل المارك القديم بواقع تريليون مارك قديم لكل مارك جديد. وبعد ذلك استقر الوضع المالي وعرفت ألمانيا نوعا من الانتعاش. وجاءت الأزمة المالية في نيويورك في1929 فعرفت ألمانيا انهيارا اقتصاديا في الانتاج الصناعي وزيادة عدد العاطلين علي نحو لم تعرفه الدول الصناعية الأخري, حيث بلغ عدد العاطلين في ألمانيا6 ملايين عامل. وبذلك عانت ألمانيا فيما بعد الحرب العالمية الأولي علي التوالي أكبر أشكال التضخم ثم أشد أنواع الركود الاقتصادي.
وإزاء هذه التقلبات العنيفة في أوضاع الاقتصاد الألماني, توقفت ألمانيا عن دفع التعويضات أكثر من مرة, مما أدي إلي تشكيل لجنة دولية عرفت بلجنة داوزDawes في1923, قررت إلزام الألمان بدفع التعويضات مقابل تقديم قروض لها من الولايات المتحدة. فأمريكا تقرض ألمانيا, ولكن ألمانيا لا تأخذ هذه الأموال وإنما تدفعها للحلفاء كأقساط للتعويضات, والحلفاء بدورهم لا يأخذون هذه الأموال وإنما يسددون بها قروضهم لأمريكا. فالعملية كلها حيلة محاسبية لإعطاء الانطباع بأن ألمانيا توفي بالتزاماتها عن التعويضات وأن الحلفاء يوفون بديونهم لأمريكا, رغم أن النقود لم تنتقل عمليا من أي مكان إلي مكان آخر. وبعد الأزمة الاقتصادية في الثلاثينات وانهيار الاقتصاد الألماني شكلت لجنة دولية أخري برئاسة أوين يونجYong الذي عمل علي تخفيض التعويضات المدفوعة من ألمانيا وهنا أيضا لم تستطع ألمانيا الانتظام في الوفاء.
وهكذا يتبين أن فرض التعويضات علي ألمانيا عند نهاية الحرب, لم يحقق نتائج عملية من ناحية السداد الفعلي بل أدي فقط إلي زيادة أشكال التوتر والتطرف والعداء بين الدول. ولم يكن غريبا في مثل هذه الأجواء أن ينجح هتلر في الانتخابات الألمانية بأكبر قدر من الأصوات, مما دعا رئيس الجمهورية إلي تكليفه بتشكيل الحكومة. وكان أول أعماله هو تمزيق معاهدة فرنسا وإلغاء التزامه بالتعويضات, مع البدء في الإعداد لحرب جديدة للانتقام من إذلال الحلفاء للشعب الألماني.
وباستيلاء النازي علي الحكم في ألمانيا بدأ الاستعداد لحرب جديدة وقامت الحرب العالمية الثانية وهزمت ألمانيا مرة أخري, ولكن الحلفاء كانوا قد وعوا الدرس فحرصوا علي عدم فرض أية تعويضات علي ألمانيا المهزومة وإنما, علي العكس, جاء مشروع مارشال لإعادة بناء ألمانيا وأوروبا, والتي أصبحت الحليف الأكبر للولايات المتحدة, هذا ليس كرما ولكنه سياسة وبعد نظر.
فماذا عن الكويت والعراق؟ هل لنا أن نتعلم من عبرة التاريخ وتجارب الآخرين؟
أليس في العرب عقل راجح لمساعدة هذين البلدين الشقيقين علي الوصول إلي تفاهم مقبول ينظر إلي المستقبل وآماله ويتجاوز الماضي بآلامه. المشكلة تهم العالم العربي واستقراره في مجموع, أليس من الممكن أن يعاد النظر في هذه التعويضات ليس بإعفاء العراق كليا, وإنما بتحويل التعويضات المعقولة أو جزء منها ورصدها لمشروع عربي قومي يخدم الأمة العربية في مجموعها. لقد كانت الكويت دوما مثالا في العطاء لأشقائها العرب, وكانت أول دولة عربية تنشيء صندوقا للتنمية الاقتصادية العربية, فهل غريب عليها أن تعيد النظر في رقم التعويضات وتخصص حصة لأمتها العربية؟
لماذا لا تشكل الجامعة العربية مجموعة من عقلاء الأمة لدراسة الموقف وتقديم تصورات واقعية ومقبولة من الشعبين دون مزيد من الانفعال والتشنج ومن أجل حماية مصالح العرب. فما بين الشقيقين في العراق والكويت يهم الأمة العربية في مجموعها. والأمة العربية تستحق من عقلائها أكثر من ذلك, والله أعلم
https://telegram.me/buratha