بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
مقدمة لابد منها:منذ بداية ظهور ما بات يعرف بالانظمة العربية في أوائل القرن الماضي إلى ما بعد ستينات منه ، وهذه الانظمة بقيت تدور في رحى المؤسسة الاستعمارية التي تشكل قسم منها بعد الحرب العالمية الاولى والقسم الاكبر تشكل بعد الحرب الثانية، حتى أن حروب التحرير كانت جزأ من الفلسفة الاستعمارية التي انهكتها عملية إدارة المستعمرات بنفسها فقررت، سحب مندوبيها وتسليم السلطات بيد حكومات تخضع لسياسية المؤسسة الاستعمارية بشكل أو بآخر. ومن هنا نرى أن كل منظري الاحزاب اليسارية أو اليمينية، قد خضعوا لافكار المؤسسة الاستعمارية باعتباره أنها من ساعد على ايجاد هذه الانظمة التي حكمت مرة باسم اليسار والاشتراكية ومرة باسم العلمانية، ولكن كون انها ظهرت في بيئة يغلب عليها الطابع الاسلامي نجد أنها لم تتمكن من إلغاء الفكر الاسلامي وإن تعاملت معه بنوع من الشدة مرة والتهميش والاضعاف مرات كثيرة، ولما اسقط الامر بيدها تبنت احزابا اسلامية ضعيفة نسبيا لتتمكن من تمرير مخططاتها، غير انها لم تتمكن من تغييب احزاب اسلامية ذات قواعد شعبية محلية ودولية كبيرة (خاصة تلك التي ظهرت متأثرة بالثورة الاسلامية في إيران) فلجأت إلى تعريفها كمنظمات ارهابية خلافا للحقيقة.
من هنا نكتشف حقيقة طموحات المؤسسة الاستعمارية للعودة لحكم مستعمراتها القديمة بنظم سياسية تخلت عن قواعدها الشعبية لصالح المنظومة الاستعمارية القديمة، وقد أشرنا في دراساتنا إلى ظهور منظومة خاصة تأسست لتحل محل الاستعمار القديم فسميناها في بحوثنا (مابعد الاستعمار)، وهذا أدى إلى ضرورة إيجاد عدد لا متناهي من أشكال الصراع البيني و في بعض الاحيان قيام حروب كل غاياتها التأسيس لاتجاهات فكرية سلبية تلغي فلسفة التحرر الحقيقي لتحل محلها مؤسسات تعتبر عملية النظال ضد المستعمر فاشلة بعد أن يتم استلاب الوعي الجمعي، وتخدير المجتمعات بطروحات فكرية لا تنتمي لأصالة البناء الديني والفكري والاجتماعي لتلك البلدان، مما أوجد تنازع غير عقلاني بين الواقع والتاريخ.
الاستعمار والعقل:
لعل أهم مناهج المؤسسة الاستعمارية المعاصرة يقوم على مجموعة من الاسس يقع في مقدمتها (تغييب الوعي الجمعي) للشعوب المستعمرة، و(إغتيال العقل)، فالعقل قوة تنحو منحا تحرريا، وهو يسعى دائما نحو الحقيقة، والعقل يعني تناميا مطردا في الوعي الجمعي وهذا سيعني تحول المجتمعات من ظلمة الجهل إلى نور الاستقلال، ومن هنا تصبح عملية (إغتيال العقل) لازمة للمنهج الاستعماري، وقد وجدنا إن الشعوب التي أنجبت عقولا قد تصاعدت عندها وتيرة الوعي الجمعي مما دفع إلى ظهور حركات الاستقلال عن المؤسسة الاستعمارية.
تتخذ النظريات الاستعمارية موقفا سلبيا من قضية التحدي والاستجابة لدى الشعوب، فالشعوب التي تفتقد روح التحدي، ولا تبدي استجابات وردود افعال سريعة لتبدل المواقف الدولية ستجد نفسها خاضعة لتوجهات استعمارية قد تطول وتقصر حسب قدرة الشعوب على ابداء التحدي، والتحدي بصفة عامة ليس فعلا ارتجاليا، بل هو تراكم للارادات نتيجة لتمحور العقل حول قضية الاستقلال والخروج من الظلمات وضحالة التفكير إلى نور المستقبل، وهذا التحدي تؤسس له عقول واعية لمدارك الحدث الاستعماري.
لاشك إن علاقة العقل المستنير بالوعي الجمعي علاقة إيجابية حيث ان مهمة العقل المستنير تقوم على أساس تزايد مدركات الوعي الجمعي بالحدث التاريخي، مما سيعني تحولا واعيا باتجاه الفعل الحضاري، غير ان الاتجاهات الاستعمارية سعت إلى إستنزاف التاريخ الحضاري للشعوب دون أن تعمل على تطويرها، فوجدنا أن كل الشعوب التي خضعت للاستعمار قد خسرت كثيرا من تاريخها الحضاري تحت حجج الفلسفات الغربية التي تقول ان التحضر يعني التخلي عن التاريخ الحضاري لحساب الحضارة الغربية، وهذه احد أكبر اخطاء الفلسفة الغربية المعاصرة، ولما كنا لا نقول بفلسفة الماضوية، فان التاريخ الحضاري لايعني البقاء في حيز الماضي دون التحول للمستقبل، فالتاريخ الحضاري للعراق لم يكن عائقا أمام التطور الحضاري في العصور المختلفة بما فيها الحضارة الاسلامية، بل أن التاريخ الحضاري للعراق شكل تراكما معرفيا ساعد على وجود استنهاض للوعي الجمعي في مراحل مختلفة مما يعني حيوية الحضارة العراقية وقدرتها على الاستمرار في كل الظروف.
تهافت النظام العربي:
على الرغم من إستغلالها لقوة الفكر الاسلامي إلا أن المنظومة العربية فشلت في دمج الفكر القومي بالفكر الاسلامي، فالنظرية القومية قد طرحت على الدوام رؤية ضيقة غير قادرة على التفاعل مع الحياة، بل انها إتجهت في الكثير من الاحيان لتتحول إلى رؤية عشائرية، قبلية، لم تتمكن من طرح مشروع حضاري متعدد الابعاد، في حين أن الفكر الاسلامي تمكن من أعادة تفعيل عناصر الحياة من منظور رسالي مركزا على شمولية الاسلام تشريعا وعقيدة، وهي شمولية وسعت كل مكونات الحياة وتأثيراتها، فمثلا فشل الفكر القومي في صراعه مع العدو الصهيوني منذ 1947 وحتى الان على الرغم من الحروب التي شنتها أو اشتركت بها كانت انظمة عربية مثلتها احزاب قومية، في حين أن حزب واحد تمكن من إخضاع أسرائيل اكثر من مرة كما في حرب تحرير الجنوب سنة (2000) وحرب تموز سنة (2006)، والسبب في كل ذلك ان الجيوش التابعة لانظمة عربية لم تكن تتبنى عقيدة تحررية وبقيت متكأة على النظام العربي الرسمي كداعم اصيل، في حين كان حزب الله قد تبنى موقفا رساليا وعقيدة إلهية في حروبه ضد العدو الصهيوني.
لقد استخف النظام العربي الرسمي بالعقل الجمعي لشعوب المنطقة فكانت طروحاته على الدوام تتبنى معاييرا سلبية تساعد النظام الحاكم على الاستمرار عن طريق الاستبداد الدكتاتوري والتوريث سواء في الانظمة الملكية ( من ضمنها تلك التي يحكمها أمراء) والانظمة الجمهورية التي اطلقنا عليها اسم (الجمهوريات الملكية) كما في العراق حين حاول صدام ترسيخ الامر لاحد ابناءه، وكما حدث في سوريا، وكذلك ما يمكن أن يحصل في (مصر واليمن وليبيا).
أزمة المنظومة العربية:
إن فشل المنظومة العربية المرتكزة على الفكر القومي في قيادة المجتمعات المعاصر قد ساعد على تخلف الشعوب وتراجع الناتج المحلي بسبب عدم وجود فلسفة اقتصادية كما لاتوجد فلسفة سياسية أو اجتماعية تحرك الواقع الاجتماعي، فالاقتصاد العربي مرتبط كليا بالاقتصاد الغربي ويتبع نفس مناهجه في عمليات الاستثمار، مما يعني الاستمرارفي إستلاب الثروات لصالح المستعمر وفقدان المجتمعات لهويتها الفكرية.
لقد حاولنا دائما استنطاق حركة التاريخ وتحليل الحدث التاريخي وفقا لمعطيات عقلانية تكشف عوامل النهضة والانحطاط، فالاسلام كفكر رائد جاء ليجعل الانسان قادرا على تشييد حضارة مستقبلية هدقها تمييز عناصر الضعف والقوة في تاريخ الامة وهو تمييز بين الخط الرسالي والمنحرف بين (الامامة والملك)، وبالتالي يجرد الفكر الاسلامي المجتمعات من نظرية (المستبد العادل) باعتبار إمكانية تحقق الصيرورة التاريخية، بل انه يؤكد أن المجتمع الاسلامي هو مجتمع يحقق صيرورته التاريخية والفكرية بشكل مستمر.
من هنا نكتشف أزمة المنظومة العربية المعاصرة التي ترفض التغيير، وهي لا تدركأن الفكر الاسلامي قادر على استيعاب الصراع الحضاري بكل تحولاته الزمانية والمكانية، فبينما تنظر المنظومة العربية لحركة التاريخ نظرة تمجيدية، نجد الفكر الاسلامي يتعامل مع حركة التاريخ عبر نظرة تحليلية نقدية، وهي نظرة ساعدت على أن لايتحول التاريخ لفكرة جامدة تنغلق على مؤثرات محددة.
لاشك إننا ندرك أن ازمة النظام العربي المعاصر ليست تاريخية بقدر ما هي فكرية، ويمكن إعتبارها نتاجا لقصور ذاتي في إدراك الحقيقة المجردة، وبالتالي فان حركة الصراع بين الانظمة والشعوب ستبقى متفاعلة حتى يتم الحسم النهائي لصالح الامة.
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتيdr-albayati50@hotmail.co.ukرئيس ومؤسس الاتحاد الشيعي العالمي (أتشيع)المملكة المتحدة – لندن
https://telegram.me/buratha
