بقلم : السيد عامر الحسني
توثق جميع الأمم للحوادث التي وقعت في تاريخها في سجل مكتوب يسمى التاريخ , ويحفظ هذا السجل الأحداث وأسماء الشخصيات التي لعبت دوراً مميزاً في رقي الأمم أو في تسافلها . كما تحاول الأمم أن تظهر الجانب المشرق في هذا التاريخ وعظم الانجازات التي حققتها على مدى الزمن التي عاشت فيه , وعندما تجد نقاط سوداء أو مظلمة في صفحة التأريخ تقوم بمحوها أو تشير لها إشارة عابرة , وهذه قضية تكاد يكون مجمع عليها عند جميع الأمم , ولكنها في حقيقة الأمر محاولة مريرة لتجاوز عقدة الماضي التي تسبب ردة فعل سلبية لدى الأجيال القادمة . ويسمي علماء النفس هذه القضية بالنفاق الايجابي حيث ان النفاق يشير إلى كتمان الكفر وإظهار الإيمان وهو طريقة من طرق التزلف والانتهازية من اجل التقرب إلى الجانب الآخر ذو السلطة .و يتحول النفاق الايجابي الى شعور بالتسلط والطغيان لدى الأجيال اللاحقة وشعورها بالتفوق الوهمي . والذي بدوره يؤسس إلى الشعور بالعظمة وسحق الآخر , وهذا المفهوم كان هو الحجر الأساس الذي تأسس عليه مفهوم الاستعمار .
والمؤسف حقاً ان الشعور بالتفوق لدى الأمم الاستعمارية قابله شعور بالدونية من قبل الأمم الضعيفة والمستعمرة والتي لم تعرف حتى طريقة تدوين التأريخ بصورة صحيحة , فسردت تأريخ مشوه لم يقتنع به حتى الجهلة من الأمة لما يصاحبه من كذب ظاهر وتدليس ولفقدانه للحبكة الأدبية وعدم الانسجام مع الواقع , إضافة إلى وجود نسخة ثانية لهذا التاريخ تروي نفس الوقائع ولكن بصورة اصدق ومدعمة بشواهد وأدلة لا يشوبها الشك .وما يهمنا في هذا المجال هو تاريخ العرب الإسلامي الذي كتب بعد شهادة الرسول صلى الله عليه وأله وبأيادي غير نزيهة .ولأجل البحث العلمي واستكشاف الحقائق وإجلاء الغموض في التأريخ الإسلامي وجدنا انه من الأنسب تقسيم التاريخ إلى تاريخ سني وتاريخ شيعي .
ان من يقرأ كتب التأريخ الإسلامي يجد هناك طريقتين في سرد وقائع التأريخ متوازيتين بالزمن ومتعاكستين بالحقيقة . فالتاريخ السني على سبيل المثال يحاول أن يتجنب إظهار المعجزات التي حدثت في التاريخ الإسلامي منذ ولادة الرسول صلى الله عليه وآله ولحد هذه اللحظة , كما يحاول نفيها في بعض الأحيان والسبب في ذلك هو ان معظم المعجزات كانت مرتبطة بأهل البيت عليهم السلام .فمثلا يحاول التاريخ السني ان يغير الحقيقة عن حادثة الإسراء والمعراج حيث نقل عن ابن إسحاق في (زاد الميعاد) لابن القيم: " عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده ، ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك ."وبعد ذلك يحاول ابن أبي العز الحنفي في "شرح الطحاوية" وهو من علماء السنة تبرير قول عائشة حيث يقول : " فعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا كان مناما ، وإنما قالا : أسري بروحه ولم يفقد جسده . "إلا ان الرواية في التاريخ الشيعي تقول بان الإسراء والمعراج كان بالجسد والروح وحدث اكثر من مرة , ففي رواية عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : "عُرج بالنبي صلى الله عليه وآله إلى السماء أكثر من مائة وعشرين مرّة".
ان الهدف من إيراد التناقض في الحادثة هو التشكيك في المعجزات التي تحدث لأهل البيت عليهم السلام مثل حادثة رد الشمس لأمير المؤمنين عليه السلام . كما ان التاريخ السني يحاول التعتيم على شخصية الخضر عليه السلام وكيف مد الله في عمره وذلك من أجل التشكيك في حقيقة غيبة الإمام صاحب الزمان عليه السلام .
كما ان التاريخ السني الحديث يحاول ان يعتم على الكثير من الأحداث التي حدثت في وقت قريب أو يظهر شخصياتها على إنها شخصيات متميزة ولعبت دورا كبيرا في تاريخ العرب في الوقت الذي اتسمت فيه هذه الشخصيات بالظلم والطغيان وقهر الشعوب كما هو الحال مع عبد العزيز آل سعود الذي بنى كيانه على جماجم الأبرياء وإراقة الدماء ولا زال التاريخ يسميه صاحب الجلالة ملك الحجاز في الوقت الذي كان يرأس عصابة للتسليب على الطرق المؤدية الى مكة , والحال نفسه ينطبق على السادات والذي أزاح جميع الرموز الوطنية التي اشتركت في ثورة 23 يوليو 1952 وركز راية اليهود في أرض الكنانة وعندما يذكره التاريخ يقال عنه (الراحل السادات ) تكريما للدور الذي لعبه في كامب ديفد وزيارة العار التي قام بها إلى إسرائيل عام 1977 .كل هذا التزييف في التاريخ العربي هو لأجل إعطاء مصداقية للتاريخ الإسلامي السني للفترة التي أعقبت استشهاد الرسول صلى الله عليه وآله وحتى الفترة التي شهدت نهاية الرمز العربي السئ الصيت (صدام حسين) والذي اخذ حصته من الزيف والنفاق العربي الذي لم يبخل بإطلاق بعض الألقاب المسروقة من الصفحة البيضاء للعظماء فسمي بالرئيس الشهيد كيدا بشيعة أهل العراق , وحتى تخلق جو من التشكيك في الدور الذي سيلعبه أهل العراق في المستقبل لما امتازوا به من صفات قل نظيرها عند باقي الأمم , حيث ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال : عرضت ولايتنا على أهل الأمصار فلم يقبلها إلا أهل الكوفة .
لقد حاول التاريخ السني أن يخلق هالة حول بعض الشخصيات السيئة جداً والتي لم يكن لها نصيب من العفة والطهارة , فجعلها شخصيات بارزة ذات تأريخ مشرف في الإسلام , وسنورد قصة حول إحدى هذه الشخصيات وما هو تقييم التاريخ السني والتاريخ الشيعي لهذه الشخصية والقصة قد ذكرت في كتب السنة البداية والنهاية لابن كثير(7|82) , تاريخ الطبري ج2 ص493 , كما ذكرها ابن ابي الحديد .
الرجل صاحب القصة هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي. والقصة كما يلي :
كان المغيرة بن شعبة واليا على البصرة من قبل عمر بن الخطاب وكان ذات يوم في بيته وهو مجاور لبيت أبي بكره ، وكانا في مشربتين(غرفتين) متقابلتين لهما في داريهما في كل واحدة منهما كُوة(نافذة) مقابلة للأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبت ريح، ففتحت باب الكوة، فقام أبو بكرة ليصفقه، فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته، وهو بين رجلي امرأة، فقال للنفر: قوموا فانظروا، فقاموا فنظروا، ثم قال: اشهدوا، قالوا: من هذه؟ قال: أم جميل ابنة الأفقم (كانت أم جميل إحدى بني عامر بن صعصعة وكانت غاشية للمغيرة، وتغشى الأمراء والأشراف وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها) , فقالوا: إنما رأينا أعجازاً، ولا ندري ما الوجه ؟ثم إنهم صمموا حين قامت، فلما خرج المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة وقال: لا تصل بنا. فكتبوا إلى عمر بن الخطاب بذلك فأرسل عمر أبا موسى الأشعري محل المغيرة واستدعى المغيرة والشهود وكانوا كلا من أبي بكرة وشبل بن معبد بن عبيد البجلي الأحمسي، ونافع بن الحارث بن كلدة الثقفي، أخو أبي بكرة لأمه وزياد بن أبيه
وارتحل الأربعة حتى قدموا على عمر بن الخطاب ، فجمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة: والله ما أتيت إلا امرأتي – وكانت شبهها – فبدأ بأبي بكرة وهو من صحابة الرسول صلى الله عليه واله ، فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة.ثم دعا بشبْل بن معبد، فشهد بمثل ذلك , وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة ، وأقبل زياد، فلما رآه عمر قال: أرى وجه رجل لا يخزي الله به رجلاً من أصحاب محمد ، فلما دنا قال: ما عندك يا سَلْحَ العقاب ؟فلم يشهد زياد بمثل شهادتهم , فقال: رأيته جالساً بين رجلي امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان(تتحركان)، وأستين (العجز) مكشوفتين، وسمعت حفزاناً (دفعاً) شديداً.
قال: هل رأيت كالميل في المكحلة ؟ قال: لا. قال: فهل تعرف المرأة؟ قال: لا، ولكن أشبّهها، قال: فتنح، فجلد عمر بن الخطاب أبا بكرة، ونافعاً، وشبل بن معبد، فقام أبو بكرة وقال: أشهد أن المغيرة زانٍ، فأراد عمر بن الخطاب أن يجلده ثانية، فقال له علي عليه السلام : إذاً توفي صاحبك حجارة.وكان عمر بن الخطاب إذا رأى المغيرة قال: يا مغيرة! ما رأيتك قط إلا خشيت أن يرجمني الله بالحجارة) .
انتهت القصة !
تعقيب : 1- ما قال التاريخ العربي السني عن المغيرة بن شعبة :* كان محل ثقة ومكانة في الإسلام منذُ إسلامه.* في خلافة عمر بن الخطاب استعمله الخليفة أكثر من مرة مما يدل على حسن ثقته به، ومما هو معروف عن الخليفة عمر بن الخطاب أن استعماله للولاة والقادة ليس أمراً سهلاً عنده، فكان لا يستعمل إلا من تتوفر فيه مزايا كثيرة منها القوة والأمانة والعلم والبصيرة والشفقة بالرعية، ووفق هذه الثوابت استعمل الخليفة عمر بن الخطاب المغيرة بن شعبة على البحرين ثم عزله بعد ذلك ، وبعد وفاة عتبة بن غزوان ، استعمله الخليفة عمر على البصرة فبقى عليها سنتين ، نظم فيها شؤونها . وفي سنة 21هـ ولى الخليفة عمر بن الخطاب المغيرة بن شعبة الكوفة "... فلم يزل عليها حتى مات عمر ، ثم أقرّه الخليفة عثمان بن عفان على الكوفة ثم عزله بعد ذلك .ولم يكن دور المغيرة بن شعبة الجهادي في الفتوح والمعارك بأقلَّ من دوره السياسي والإداري في إدارة البصرة والكوفة.يتبين مما ورد عظم الدور والمهام التي كلف بها المغيرة بن شعبة من الخلفاء ولاسيما عمر بن الخطاب الذي لم ينساه حتى في خطة أمارة الجيش ، ويبدو أن هذا متأتي من الصفات التي اتصف بها المغيرة بن شعبة فقد عُدَّ " من رجال الدهر حزماً وعزماً ورأياً ودهاءً" ، وكان يقال له : مغيرة الرأي ، وروي أن " دهاة العرب أربعة معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه , وكان " ... لا يقع في أمر ألا وجد له مخرجاً ولا يلتبس عليه أمران ألا ظهر الرأي في احدهما " ، ولهذه الصفات التي حباه الله تعالى بها كان يُقدم في الأمور التي تحتاج إلى الحكمة والفطنة والرأي .وفي العصر الأموي لم يكن دور المغيرة بن شعبة هامشياً فبعد أن استتب أمر الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان سنة 41هـ استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة ، وظل والياً عليها تسع سنين حتى هلاكه سنة 50هـ .
2- ما قال التاريخ العربي الشيعي عن المغيرة بن شعبة :
* من دهاة العرب ولد في ثقيف بالطائف ، وبها نشأ , كان المغيرة ومعاوية بن أبي سفيان وعمر بن العاص وزياد بن أبيه من ضمن مجموعة حاولوا اغتيال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ليلة العقبة .عندما هلك عثمان بن عفان وتمت البيعة لأمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) وقرر أن يعزل عمال عثمان بن عفان ويرد الحقوق إلى أهلها, فجاءه المغيرة وقال له: أقرر معاوية على عمله وأقرر ابن عامر على عمله وأقرر العمال على أعمالهم حتى إذا أتتك طاعتهم وطاعة الجنود استبدلت أو تركت, فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): والله لا أداهن في ديني ولا أعطي الرياء في أمري , أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه ؟ قال: لا, قال..(وما كنت متخذ المضلين عضدا).
فأعرض المغيرة عن بيعة الإمام علي (عليه السلام) وناصبه العداء والتحق بمعاوية فيما بعد وأصبح واليا على الكوفة من قبل معاوية , ثم أخذ يلعن ويسب أمير المؤمنين عليا والحسن والحسين من على منبر الكوفة وهو الذي كان يضيق على حجر بن عدي وأصحابه حتى قتلهم معاوية بسببه. * ساعد المغيرة في استلحاق زياد بن أبيه بمعاوية بن أبي سفيان حيث لم يعرف لزياد أب حيث ولدته (سمية) التي كانت جارية للحرث بن كلدة الطبيب الثقفي وكانت من البغايا ذوات الرايات بالطائف ، وتؤدي الضريبة إلى الحرث بن كلدة ، وكانت تنزل في حارة البغايا خارجا عن الحضر وكان يختلف إليها كبار القوم في الجاهلية ، وكان الحرث قد زوجها من غلام رومي له اسمه عبيد ، ونزل أبو سفيان في أحد أسفاره في الجاهلية إلى الطائف على خمار يقال له : أبو مريم السلولي ، فقال له : قد اشتهيت النساء فالتمس لي بغيا ، فقال له : هل لك في سمية ؟ فقال : هاتها على طول ثديها ، وذفر بطنها ، فأتاه بها فوقع عليها ، فعلقت بزياد .وجاء المغيرة إلى زياد وواعده بترتيب الأمر له وقال لزياد : ارم بالغرض الأقصى ودع عنك الفضول فإن هذا الأمر لا يمد إليه أحد يدا إلا الحسن بن علي فخذ لنفسك قبل التوطين, فقال زياد: فأشر علي, قال: أرى أن تنقل أصلك إلى أصله(يعني معاوية) وتصل حبلك بحبله وأن تعير الناس منك أذنا صماء فقال زياد: يابن شعبة أأغرس عودا في غير منبته ولا مدرة فتحييه ولا عرق فيسقيه ؟ فقبل زياد بن أبيه وأخذ برأي ابن شعبة .
ملاحظة :التأريخ السني يقول إن (الصحابة كلهم عدول ، لا يجوز تجريحهم ولا تعديل البعض منهم دون البعض.) , ووفقاً لهذا القانون فان المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي هو صحابي لا يجوز تجريحه ولا تعديله , وعلى المسلمين ان يأخذوا أمور دينهم من المغيرة وغيره من الصحابة , فطوبى للمسلمين .
https://telegram.me/buratha