أ. د. حاتم جبار الربيعي
بالرغم من أهمية ترتيب وضع الجامعة الأمني من أجل مباشرة الدوام بعد إحداث عام 2003 ،إلا أن ترصين الجامعة من الناحية العلمية نال إستحقاقه تحت ظل الظروف الصعبة. لذا وضعنا ثلاث خطط: القصيرة (العاجلة) والمتوسطة والطويلة المدى، وتم إنجاز الخطة الأولى بشكل تام إذ باشرت الجامعة بالدوام و أنهينا العام الدراسي 2002/2003 بإجراء الإمتحانات النهائية. وبدأنا الخطة المتوسطة إذ عملت الجامعة على إجراء دراسة سريعة للقوانين والتعليمات الجامعية السابقة لغرض رفع المستوى العلمي والحد من الظلم والتمايز وقد اُتبعت معظمها لأنها جاءت منذ عام 1952 بعد تأسيس الجامعة وتحمل خبرة طويلة وعُدل القليل من التعليمات الإدارية. وكان هذا من أهم سبل نجاح الجامعة هو تشذيب القوانين والأنظمة القديمة وليس الغاؤها كما توقع كثير من الأكاديميين. حتى أنه في احدى مشاركاتي لمناقشات مجلس احدى الكليات ذات الدراسات الإنسانية وكنت أتحدث عن ضرورة ترصين المناهج الدراسية وفق العلوم الحديثة السائدة في العالم ولكن بعض أعضاء المجلس ذكروا بأن الكلية يفترض أن تنتظر نتائج الإنتخابات البرلمانية لترى طبيعة الحكم الذي يسلكه العراق لغرض وضع المناهج الدراسية الملائمة. فأجبتهم في حينها التزموا المنهج العلمي الرصين بعيدا عن توجهات الحكومة العراقية الجديدة لأننا يجب أن نخطط للدولة العراقية وليس لتوجهات الحكومات المتعاقبة.أما الخطة طويلة المدى فتتضمن التخطيط لإرسال طلبة البعثات والزمالات الدراسية وتدريب بعض الطلبة خارج العراق وإعادة تأهيل التدريسيين وتحديث المكتبات والمختبرات العلمية بما يلائم التطورات التي شهدها العالم والتي كانت الجامعات بعيدة عنها منذ الثمانينات وفتح كافة أوجه التعاون مع مختلف الجامعات العربية والأجنبية.واحتل الإهتمام في التخطيط للدراسات العليا والأولية إذ قمنا بإعادة النظر بكافة الضوابط والتعليمات والمناهج السابقة وحددنا شرط المؤهلات العلمية كأساس للقبول والغاء الدرجات الإضافية أو الإمتيازات الخاصة التي كان يتمتع بها البعض . وعلى سبيل المثال حددنا الحد الأدنى لقبول طلبة الدراسات العليا بمعدل 70% بدلا من 65% الذي كان سائدا مع توفر شرط العمر واجتياز إختبار امتحان كفاءة اللغة الأجنبية حيث كانت جامعتنا تتمتع بالإستقلالية. لذا فإن معدل الطالب ومايحصل عليه بالإمتحان التنافسي كانت هي الأساس لغرض القبول. وكان للدكتور محمد السراج رئيس قسم الدراسات العليا في الجامعة (2003-2007) والذي يشغل حاليا مدير عام دائرة البحث والتطوير في وزارة التعليم العالي، دور مهم في تنظيم شؤون الدراسات العليا في جامعة بغداد إذ عمل جاهدا مع أعضاء قسمه من أجل إتباع برامج الحاسوب لغرض تحديد أسماء الطلبة المقبولين بعد أن قامت الجامعة بسحب كافة مستمسكات الطلبة من الكليات لغرض تدقيقها وبرمجتها آليا لتعلن أسماء المقبولين بعدالة تامة دون تدخل أية مؤثرات أخرى. لذلك عندما يعترض أحد الذين لم يتم قبولهم كنا نقول له تفضل وادخل على برنامج الحاسوب الموجود في قسم الدراسات لترى سبب عدم قبولك وشعر الجميع في حينها بأن العدالة طبقت على الجميع امتثالا لقول الله تعالى:بسم الله الرحمن الرحيمإن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتائ ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ،(النحل 90)
كما جرى الإهتمام بشرط اجتياز الطالب إمتحان كفاءة اللغة الأجنبية ولأهمية هذا الإمتحان ترأست شخصيا تلك اللجنة لغرض تطويرها وتأمين سلامتها. لذلك كنت أحضر في قاعات الإمتحانات التي تجرى عادة كل أسبوعين أو شهريا ومتابعة تصليح الدفاتر الإمتحانية وظهور نتائج الإمتحانات. ومن الطريف أنه كان قد تم تحديد موعد امتحانات الطلبة في يوم الخميس وكان حضوري في قاعات الأمتحانات مهما جدا لذلك حضرت في يوم الخميس المصادف 6/4/2006 في الساعة الثانية عشر ظهرا في قاعات كلية التربية للبنات بعد أن أكملت عملي في رئاسة الجامعة. وبقيت أتجول في القاعات حتى الساعة الواحدة ظهرا وبعدها إعتذرت من أعضاء اللجنة عن البقاء لفترة أطول في القاعات لوجود أعمال مهمة في ذلك اليوم. وغادرت الكلية ليعرف أعضاء اللجنة لاحقا وسط دهشتهم بأن في الساعة الرابعة من عصر ذلك اليوم كان موعد زفافي !!.
أما تدريب الطلبة خارج العراق للصفوف غير المنتهية فقد إحتل اهتماما كبيرا لدينا , ولذلك فقد حضرت إجتماعات المجلس العربي لتدريب طلاب الجامعات العربية الذي عقد في سلطنة عمان وفي جامعة السلطان قابوس للفترة من 9-11/3/2004 لأستغل بها فرصة رجوعي بالمرور على السلطنة من مهمة تدريب كنت من ضمنهم للقيادات الجامعية قامت بها جامعة برمنغهام الإنكليزية. وتتم عادة فرص تبادل تدريب الطلبة مابين الجامعات العربية ولكوني لاأحمل أي عدد من الفرص لغرض تدريب طلبة عرب في جامعة بغداد لأستبدل بها مع الآخرين بسبب الظروف الأمنية الصعبة التي يعيشها العراق في ذلك الوقت. واستثمرت فرصة ترأسي احدى الحلقات النقاشية في ذلك المؤتمر لأوجه كلاما للأخوة رؤساء الجامعات أو مساعديهم الحاضرين في الإجتماع بأن العراق كان من مؤسسي هذه اللقاءات وقد ساهم بدعم الجامعات العربية واليوم يحز بأنفسنا بأن يقوم الفرنسي أو الياباني وغيرهما بدعم الجامعات العراقية بينما يتفرج أخوتنا العرب في كافة جامعات الدول العربية على حالنا ولم يقدموا أي دعم لجامعاتنا لذا فأن أي فرصة نحصل عليها من الأخوة العرب تعادل لدينا الأضعاف مقارنة بجامعات الدول الأجنبية لأنها تشعرنا بأخوتنا معكم، ونحن نمر الآن بظروف قاسية لم تسمح لنا بجلب أي فرص للتدريب لنتبادل بها مع بعضكم. وبعد أن انهيت حديثي الذي شعرت بأنه كان مؤثرا على الأخوة العرب لأني حركت به مشاعرهم العربية. قامت بعض الجامعات بالتبرع بفرص تدريب دون مقابل وكان لنائبة رئيس جامعة عين شمس المصرية وجامعة مصرية أخرى دور مهم في الحصول على أغلبية الفرص. وطلبت بعد رجوعي للجامعة بأن تحدد أسماء الطلبة لغرض التدريب خارج العراق وفق الدرجات التي حصلوا عليها بالسنوات الثلاثة الأخيرة. لهذا توجه حوالي ثمانين طالبا بالعطلة الصيفية في تموز 2004 ليتدربوا لمدة شهرين في الجامعات المصرية والسورية والأردنية والسودانية وسلطنة عمان وغيرها.أما في عام 2005 فقد عقد الإجتماع في الجزائر وكنت متحمسا للحضور لغرض جلب فرص جديدة ولكن وجدت الجامعة محرجة بتوفير بطاقة السفر الى الجزائر بسبب عدم وجود صلاحية صرف بطاقات السفر للموفدين عندها أخبرت رئاسة الجامعة بأني لن أسافر لتضيع علينا فرص في ذلك العام والأعوام اللاحقة لأن نظام دعوة الوفود في تلك الإجتماعات تتم بتغطية تكاليف السفر من قبل الجامعات وليس من المجلس العربي.أما في مجال البعثات والزمالات الدراسية والدورات التدريبية فقد كنا حريصين على الحصول عليها لتطوير كفاءة أعضاء الهيئة التدريسية من الناحية العلمية. وكنا نتبع أسسا منطقية لغرض تحديد المرشحين وتسهيل مهمة حضور المؤتمرات العلمية التي تعقد في مختلف دول العالم، إذ في كثير من الأحيان يحصل المرشح على كتاب الأيفاد بنفس يوم مراجعته للجامعه لضيق وقت حضور المؤتمر.وطلبنا من الوزارة تفعيل نظام البعثات الدراسية الذي توقف منذ فترة طويلة بسبب الحروب والحصار الإقتصادي وقد خصصت الحكومة العراقية المؤقتة برئاسة الدكتور أياد علاوي (28/6/2004-2/5/2005) مبالغ جيدة لهذا الموضوع. حيث أكتملت معاملات القبول والمباشرة بإرسال الطلبة خلال فترة حكومة السيد نوري المالكي، حتى تم الأهتمام بهم واقتربت الرواتب التي يتقاضاها طلبة البعثات والزمالات الدراسية من العراق برواتب الدبلوماسيين.ومن الأمور التي أتذكرها في هذا الجانب بأنه زارني في مكتبي عضو أحد المنظمات الخيرية لغرض توفير فرص لزمالات دراسية وفرحت لهذا اللقاء وأخبرني بأن تقوم الجامعة بترشيح خمسة طلبة من الذين كانوا أوائل في الدراسة الإعدادية الذين قبلوا في جامعة بغداد وهم الآن في المرحلة الأولى من الدراسة الجامعية لغرض إرسالهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية لنيل شهادة البكالوريوس ولفترة أكثر من خمس سنوات. وبعد مناقشة الموضوع معه تبين بأنه مهتم فقط بالطلبة الأوائل في الثانوية وقد زار عدة جامعات عربية لتسمية هؤلاء الطلبة واعتقدت حينها بأن هذا العمل خلفه أسباب أخرى تهدف إلى الحصول على الطلبة المتفوقين في كافة الدول العربية لغرض ادماجهم بالمجتمع الأمريكي أو الغربي وهم بهذا السن المبكر من حياتهم، لهذا طلبت منه وبما أنهم جمعية خيرية علمية فلتحول تلك المبالغ لغرض إرسال خمسة تدريسيين لدراسة الدكتوراة أو بحدود 30 تدريسيا للتدريب لمدة 6 أشهر في الجامعات الرصينة لغرض إطلاعهم على الأجهزة والتطورات العلمية بدلا من إنتقاء الطلبة الخمسة الأوائل الذين يدرسون حاليا على شهادة البكالوريوس في كلية الطب ذات المستوى العالي والسمعة الطيبة في كافة دول العالم. فلم يوافق وأخبرته بأن هذه الفرصة سوف لانجني منها أي شئ مفيد لأننا سنخسر طلبة متميزين وعلى الأكثر سوف لن يعودوا لأن هذا البرنامج يحمل أمورا أخرى خصوصا وهم بعمر الثامنة عشر عاما ويتكيفون بسرعة مع الحياة الغربية كما ستعرض عليهم إغراءات كثيرة للإستقرار في أمريكا أو غيرها وهم يمثلون الآن صفوة الطلبة العراقيين لذا استغرب ذلك الشخص لهذا الحوار وقال لم يذكره لي أي مسؤول عربي آخر طوال مناقشاتي معهم، وقد عرفت بأنه عربي ويحمل جنسية ثانية ولكنه يبدو يعمل مع بعض الجهات الأجنبية المشكوك بحبها للعرب والمسلمين.وإذا رأى عدد من القراء أن الأمر يمكن معالجته لضمان عودة هؤلاء الطلبة للبلد بتحميلهم كفالات مالية تدفع عند عدم العودة فهذا لايفيد لأن الجامعات الأمريكية ستعرض عليهم من الأموال أضعاف ذلك كما حدث في حالات كثيرة. وعليه فأنا أنصح بعدم إرسال طلبة لدراسة البكالوريوس في الجامعات الأجنبية إلا لدراسة اللغة الأجنبية التي يصعب على الكثير دراستها بتميز داخل العراق .
وقد تم الإهتمام بالمكتبات العلمية وتحديث الكتب والمجلات العلمية المتوفرة فيها. وكانت المكتبة المركزية في جامعتنا الأم تعاني الأهمال وعدم التحديث بسبب أنشغال البلاد بالحروب، بينما عانت كثير من مكتبات الكليات من الحرق والدمار والنهب مابعد سقوط النظام السابق وما رافقه من احداث متسارعة حتى أصبحت تعاني من مشكلتين مزدوجتين هما: التدمير والخراب لاحقا ومشكلة تقادم المصادر والمراجع وعدم التحديث سابقا. وأن ندرة التخصيصات المالية ساعدت هي الأخرى على ذلك. إلا أن جامعتنا وبجهود السيد رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور موسى الموسوي وبجهودنا المبذولة والسيد أمين المكتبة المركزية الدكتور ماجد عبدالكريم في الجامعة ومناشدتنا المنظمات الدولية ذات الصلة والمؤسسات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني، استطعنا أن نرفد الجامعة بالممكن من المصادر والمجلات الحديثة. كما شاركت الجامعة بعدة معارض لشراء الكتب لأن معظم الكتب المتوفرة في الجامعة والكليات تعود لمرحلة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وقامت الجامعة بالإشتراك مع جامعات غربية لغرض إطلاع طلبتنا بواسطة الحاسوب بما يعرف بنظام المكتبة الألكترونية على الكتب المتوفرة في مكتباتهم. أما دعم الجهات الأجنبية فقد حصلت بعض الكليات على مصادر حديثة من تلك الجهات ولكن أهم دعم هو ماقام به الدكتور صفاء الحمداني وهو عراقي ومقيم في إحدى الدول الغربية واتصل بي شخصيا لغرض تزويدنا بكتب وأجهزة علمية ورحبت بفكرته وإطمأن بسلامة وصولها بعد أن تحرى عن هذا الموضوع. وقام بجمع آلاف الكتب العلمية الحديثة مع بعض الأجهزة العلمية التي يكلف شراؤها أكثر من مليون دولار وارسالها الى جامعة بغداد بدون أن تكلف الجامعة دولارا واحدا إذ لم تتطلب إيفادا أو تكاليف سفر لي أو لغيري وحتى أجور شحن الحاويتين اللتين أرسلهما كانت مدفوعة من قبل الجامعات التي قامت بإهدائها. أما أستخدام التعليم الألكتروني عن بعد فقد حصلت علية الجامعة ولأول مرة بجهود الدكتور بهاء إبراهيم كاظم معاون عميد كلية هندسة الخوارزمي(2003-2006) ويشغل حاليا رئيس مركز التطوير والتعليم المستمر في الجامعة، إذ نسق مع أحد الأساتذه العراقيين المغتربين في كندا. وتمكنت لاحقا من الأتصال به وأشكره على هذه المبادرة العراقية الرائعة لنحصل على عدة محاضرات علمية مباشرة لطلبتنا ولتدريسينا من الجامعات الكندية، وحتى أتذكر بأن أحد تلك المحاضرات التي القاها الأستاذ العراقي كانت في فجر أحد الأيام لأختلاف التوقيت مابين العراق وكندا.
وفي نهاية الجزء الأساسي من هذه المذكرات أعتذر من عدم تمكني من نشر موضوع إغتيال التدريسيين كما وعدناكم في الحلقة الماضية لأنه لازالت الإغتيالات مستمرة في بلدنا ومن الصعب تحديد الأسباب الحقيقية وراء حدوثها بالوقت الحاضر. وسنكتب عنها حال انتهاء هذه الآفة الخطرة التي خسرنا بموجبها مئات الكفاءات العلمية المخلصة. كما أعتذر لحضور الذات في بعض الأماكن من الذكريات خلال توقفي عند مواقف قمت بها لأن الذاكرة تختزن عادة ماتقوم به وهذه مشكلة المذكرات اذ تتحدث دائما عن كاتبها أكثر من غيره، مع شعوري بأن هنالك جهود جبارة قام بها الآخرون من أجل خدمة الجامعة وتطويرها. وأتمنى أن تكون مذكراتنا قد أعطت فكرة عما دار في جامعة بغداد وربما عن مسيرة التعليم العالي لنستنبط منها الدروس والعبر خلال أخطر فترة مر بها العراق بعد الأحتلال الأمريكي عام 2003. متمنيا أن نتواصل في كتابات أخرى والعراق مكتمل السيادة وأن العراقيين متآخين ويعملوا سوية من أجل أعادة هذا البلد ليحتل دوره التأريخي كمنبر للحضارة الإنسانية وكأحد الرواد في الدول العربية و دول العالم الثالث. وأن يحفظه الله تعالى من شر الأشرار وينعم علية بالأمن والأستقرار وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين.* مساعد رئيس جامعة بغداد السابق والمنتخب (2003-2006)
https://telegram.me/buratha