الدكتور يوسف السعيدي
حسناً فعل البرلمان الأوروبيّ بانتقاده أحوال حقوق الإنسان في مصر، وهو موقف يمكن مدّه ليشمل الغالبيّة الساحقة من بلدان العوالم العربيّ منها والإسلاميّ و «الثالث». فالنقد، وما قد ينجم عنه من ضغوط، حدٌّ بين ترك الأمور على حالها وبين التدخّلات العسكريّة من الخارج التي تدلّ القرائن جميعاً الى حدود جدواها. وهو أيضاً الحدّ بين نظريّة السيادة الوطنيّة حين تُمارس لمصلحة الحاكم وحكمه الاعتباطيّ وبين الاستفزاز الأجنبيّ للمشاعر الوطنيّة القابلة دوماً للتصنيع والتضخيم والتوظيف. مع هذا، ومن أجل ألاّ تخدم الحملة أغراضاً تغاير أغراضها الأصليّة، يُفترض أن تقترن بنقد المجتمعات المعنيّة، الأهليّ منها والمدنيّ، لجهة ثقافاتها الشائعة وعواطفها والأشكال التنظيميّة والمؤسّسيّة المعبّرة عن العواطف والميول تلك.
فقد شهدنا ما بين إيران التي سقط نظامها الشاهنشاهيّ من الداخل في 1979، والعراق الذي سقط نظامه الصدّاميّ من الخارج في 2003، ما يكفي من تجارب تجافي النسق الأوروبيّ في ما خصّ الدولة (وفي عدادها السلطة) والمجتمع. ذاك أن النسق المذكور يقوم على درجة بعيدة من التشابه بين الدولة والمجتمع مع شيء من أسبقيّة الثاني على الأولى. فحينما تكبر المسافة بينهما، أو تتلكّأ الدولة عن اللحاق بالمجتمع، يحصل التغيير الذي يعيد التجانس الى علاقتهما. في هذا المعنى رأينا كم كان سهلاً انتقال بلد كإسبانيا الى الديموقراطيّة بمجرّد وفاة فرانكو: ذاك أن بذور الديموقراطيّة قائمة في تربة العلاقات الاجتماعيّة وليس مطلوباً، لانتقالها الى الصعيد السياسيّ، سوى رحيل الديكتاتور. وتحوّلات مشابهة، غير عاصفة ولا دراميّة، نقلت يونان الجنرالات وبرتغال سالازار وكايتانو الى نظامين ديموقراطيّين مماثلين.
وهذا ما لا يمكن قوله في بلداننا حيث تتجانس الأنظمة والمجتمعات في سويّة غير ديموقراطيّة. فإذا ما توفّي، عندنا، ديكتاتور ورثه ديكتاتور قد يكون نجله وقد يكون رفيق دربه، فيما «أفكار» المجتمع، نُخباً وجماهير، تمضي في تردّيها تباعاً بحيث يتراجع العنصر الديموقراطيّ والمدنيّ فيها لصالح وعي أكثر أصوليّة وتعصّباً وعنفاً.يساير هذه الوجهة خطّ ثانٍ مصادره في ضعف تجربة الدولة - الأمّة لدينا، وضعف التسليم بها مقابل الولاء لتشكيلات تجمّعيّة، دينيّة ومذهبيّة وإثنيّة، وفي ضعف التقليد السياسيّ وعدم الاحتكام الى نظريّة زمنيّة في الشرعيّة وتداول السلطة. هكذا تختلط صورة بلد من البلدان بـ «الوطن العربيّ» و «الأمّة العربيّة» و «الأمّة العربيّة والإسلاميّة» و «نخوة» الجماعة و «شرف» الأخوّة، مثلما يختلط بناء الدولة بـ «شرعيّة المقاومة»، وفكرة المواطَنة بالهويّة الطائفيّة أو الإثنيّة لبعض المواطنين، ومفهوم الدستور بالمسلّمات الدينيّة وهكذا دواليك... ويغدو غريباً ومريباً، في المعنى هذا، أن يتمسّك واحدنا بالديموقراطيّة وحقوق الإنسان وحدهما من قائمة الحداثة الطويلة، فلا تعنيه واجبات الإنسان، ولا تحديده كمواطن – فرد، ولا علمنة حياته السياسيّة وتزمينها، ولا مساواة الجنسين، ولا...
وبموجب تصوّرات كهذه، يُخشى ألاّ يبقى من دعوة التغيير إلاّ الثأريّة حيال الذين يُراد تغييرهم، فلا يكاد يحصل تغيير كهذا حتّى نجدنا أمام واحد من احتمالات ثلاثة: إما الاحتراب الأهليّ بين الجماعات، وإلاّ فنظام استبداديّ على النمط العفلقي ، وإلاّ فخليط من نظامي الاحتراب والاستبداد والعياذ بالله.
وقصارى القول إن الأوروبيّين، وهم يضغطون مشكورين على أنظمتنا، يُستحسن بهم، كي يكونوا مشكورين أكثر وفعّالين أكثر، أن يضغطوا، أيضاً، على مجتمعاتنا وثقافاتها التي لا يزال بعضها يوغل في عدّ الجثث، وبعضها في «جريمة الشرف»، وبعضها («المدنيّ» بالطبع) يحترف محاموه وصحافيّوه حرق الأعلام في الشوارع بينما تأتينا الفظائع على أيدي شيوخه وفتاواهم.فمن دون إنشاء توازن في الضغط كهذا، تكون المداخلة الأوروبيّة قد أدّت دورها في هزّ وإضعاف أنظمة سيّئة، ولكنْ أيضاً في تنشيط ما هو أسوأ على شكل أصوليّاتٍ أو تعصّبات أو حروب أهليّة.
https://telegram.me/buratha