المقالات

افكار ليس لها صوت مسموع ..في امة يعرب

1054 20:35:00 2009-03-31

الدكتور يوسف السعيدي

كم هي مسكينة تلك الكلمات من قبيل "فكر", "تفكير", "فكرة", "المفكر", و"المتفكر" في قاموس حياتنا وثقافتنا, فالفكر مغيب والتفكير معطل والفكرة تموت حين ولادتها والمفكر يقتله جهلنا والمتفكر يعيش ويموت في وحدته. إذا كان هذا حال الفكر والمفكر عندنا، فكيف نطلب من الفكر أن يشكل حياتنا ويوجه حركتنا وينوع اهتماماتنا ويقرب من أهدافنا ويعدل من أوضاعنا ويحسن من مستقبلنا؟ ولكن هذا لا يمنع في رأي الكثيرين من أرباب الفكر ونظرائهم في الثقافة من أن نعيد للفكر دوره المؤثر في بناء حياتنا وتفعيل جهودنا وتطوير واقعنا ولكن بشرط أن نتدرب جيدا على مخاطبة أنفسنا وتحليل مشكلاتنا ومعالجة قضايانا ولملمة أمورنا, وكل هذا هو ممارسة للتفكير بصوت عال. هناك من يتحسس, ولهم الحق في ذلك, من الدعوة إلى التفكير بصوت عال, فنحن أمة متهمة بأنها أمة صوتية, أمة يكثر قولها ويقل فعلها, أمة تشتعل حروبها وتطول معاركها وتتشتت جهودها وتتبعثر مواردها ويغيب واقعها, وينسى مستقبلها ويخون أو يكفر أبناؤها, لأن عقولنا في أذاننا فلا نريد أن نسمع إلا كلاما واحدا ومنطقا واحدا وقولا واحدا, وكما يقول الشاعر الحمداني:

ونحن أناس لا توسط بيننالنا الصدر دون العالمين أو القبرهذه هي الإشكالية الأهم المطروحة أمامنا اليوم, وهي ليست بالإشكالية الغريبة علينا, فلقد طرحها الطهطاوي من قبل وكتب عنها وتبعه الشيخ محمد عبده, وأكدها من خلال اهتمامه بنشر التعليم والمعرفة. وحاول الشيخ المصلح جمال الدين الأفغاني أن يحرك الواقع بجهوده الإصلاحية وتنقلاته بين المدن والأمصار الإسلامية لاستيعاب هذه الإشكالية والعمل على تجاوز حالة التخلف والتشتت التي كان يعيشها المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت. وها نحن اليوم نعيش هذه الإشكالية نفسها إذا لم يكن الأمر أسوأ وأشد تخلفا, وكأن الزمن عندنا لا يتحرك, لأننا نسينا أن نعيد شحن بطارية الفكر عندنا, فكيف نستمع إلى فكرنا من صوت؟ وكيف لا نعيش الأمس وقبل الأمس وعندنا الفكر نائم وصوته معدوم وفعله معطل؟ وخوفا من أن ننزلق بعيدا في جو من التشاؤم حول وضع الفكر عندنا ودوره المغيب في تشكيل حياتنا كلها, اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وتنمويا, دعونا نعتق أنفسنا من الشجون ونتكلم بوضوح في الشؤون, فما أوجه التفكير بصوت عال؟ وما المحاور الأساسية التي يتمظهر بها مثل هذا التفكير؟1 تحديد ما نريد: كل فرد وكل جماعة وكل أمة هي في الأساس ناجحة لأنها بالتأكيد ستحقق ما كانت تسعى إليه, ولكن في ضوء ما كانت تسعى إليه يتحدد نوع ذلك النجاح, فالأمة التي لا تتحرك وترفض أن تغير من نفسها لاستيعاب الجديد في الحياة, التي لا تؤمن بأهمية العمل الدائم على إعادة تنظيم أمورها والتخلص مما يعوق حركتها وتطورها, فإنها ستنجح في أن تكون أمة راكدة وربما ميتة لا حراك فيها, أمة قد أثقلتها المشكلات المتراكمة وخنقتها الأزمات التي تحيط بها, وقد يبرر هذا الركود على أنه هدوء واستقرار اجتماعي. علينا أن نحدد ما نريد لأنفسنا في مدى السنوات السنوات الخمس والعشر والعشرين المقبلة, وأن تكون هذه الأهداف واضحة وأن نجعل منها التزامات وطنية وهذه الالتزامات نجعل منها مادة ثقافية وإعلامية وتربوية تكون حاضرة في أذهاننا عند التخطيط لأي مشروع نريد أن نأخذ به. وطلابنا في المدارس والجامعات يتعلمون وفي أذهانهم تتحرك هذه الأهداف, وإنهم بدراستهم وباجتهادهم يشاركون في تحقيقها, ورجال الأعمال يدركون أن مشاريعهم وإسهاماتهم في معالجة البطالة والسعودة فهم يتحركون نحو تحقيق مثل هذه الأهداف. والأكاديميون يسعون في الاتجاه نفسه والكل يعلم أن مع كل ساعة تمضي يجب أن تكون هناك خطوة متقدمة نحو هذه الأهداف. الكل معجب بتجربة ماليزيا تلك الدولة الإسلامية التي استطاعت أن تطور من نفسها بشكل لافت ولكن القليل منا من يعرف أن هذه الدولة وضعت لها مجموعة من الأهداف, وأن كل خططها ومواردها وجهت من أجل تحقيق هذه الأهداف, وأن سنة 2020 ينتظرها الماليزيون كنقطة تحول لدولتهم من مصاف الدول النامية إلى نادي الدول المتقدمة بعد أن يصلوا إلى ما كانوا يسعون إليه من أهداف.

2 الخروج من ردة الفعل إلى دائرة الفعل:هناك فرق كبير بين أن نكون فاعلين وبين أن نكون منفعلين, بين أن نشكل مواقفنا ومبادراتنا تحت ضغط المشكلة التي نعيشها والأزمة التي نعانيها والأحداث التي تحيط بنا وبين أن يكون لنا موقف هو الذي يصنع الحدث ومبادرة نعد بها أنفسنا لمحاصرة وتحجيم ما هو مقبل من مشكلات وأزمات وأن يكون لنا فعل ليس بالضرورة أن يتحرك في إطار الحاجة الملحة لمواجهة مشكلة أو الضرورة القصوى للتصدي لأزمة معينة. عندما نكون موجودين أكثر في دائرة صناعة الفعل والأحداث، فإننا بالتأكيد سننتج أكثر وبجودة أحسن وسيكون لأفعالنا حظ أكبر ونصيب أوفر من النجاح وسنواجه مشكلات أقل وسنكون أيضا أقل استعدادا وتقبلا للخلافات والصدامات فيما بيننا, لأننا نتحرك في أجواء هادئة وغير مشحونة وأقل توترا وبعكس الأجواء التي تحيط بردات الفعل, التي هي في الغالب تكون متوترة ومشحونة عاطفيا ولا تتيح للأطراف الفرصة الكافية لمعرفة الموضوع وآراء الآخرين حوله. إننا نجد أنفسنا الآن ونحن أمامنا مشكلات كثيرة وكلها ملحة ومن الضروري التصدي لها وهذا كله نتيجة تعطيل فعلنا وغياب مبادراتنا وعدم قراءتنا الجيدة للواقع, فهو نتيجة طبيعية لكوننا منفعلين فقط مع الواقع وليس لنا دور فاعل.

3 ممارسة النقد لأنفسنا: كثيرا ما يختلط علينا أمر النقد وتقريع الذات, فعندما ننظر إلى ما آلت إليه أمورنا من تخلف وفساد, نجد البعض منا يقف قبالها باكيا ومنتحبا وموجها التهم للآخرين من الجن والإنس بأنهم هم سبب مشكلاتنا. وقد يصل الأمر بنا إلى التشكيك في قدراتنا أصلا في تغيير واقعنا نحو الأفضل, ولم ندرك أن من العلل الرئيسة أننا لم ننقد أنفسنا بالشكل المطلوب لكي نعرف مشكلاتنا ونكشف عن أسبابها. فالنقد من القيم التي يجب أن نكرسها في ثقافتنا وخطابنا الإعلامي, وهذا كفيل بإزالة الشعور بالعيب والنقص عندما نستعرض مشكلاتنا أو عندما نريد تحديد من يتحمل مسؤولية التعامل معها. علينا أن نمارس النقد مع أنفسنا وألا نكثر من الاستثناءات التي تعفي الكثير من الأمور والجوانب من النقد والمساءلة إما بحجة أنها قد تثير الفتنة وإما أن هذا الأمر قد يشمت بنا عدونا أو قد يكشف عيوبنا للآخرين. علينا أن نتخلص من كل هذه المشاعر السلبية تجاه النقد ونعلي من قيمته في أنفسنا لأنه مطلب ضروري وملح لتقويم مسارنا وتطوير واقعنا.

 4الخروج من دائرة الفرد إلى روح الجماعة. جميعنا يعرف أن ما تنتجه الجماعة يفوق كثيرا ما ينتجه الأفراد مجتمعين, وهذا هو سر وبركة العمل الجماعي. ولا يمكن لنا أن نمارس العمل الجماعي من دون ثقافة تتبنى روح الجماعة وتعمل على مد أواصر التواصل والحوار بين الأفراد. ومن الطبيعي أن تكون هناك وجهات نظر مختلفة وآراء متباينة ومواقف متعددة, ولكن بإمكان العمل الجماعي أن يوظف مثل هذه الاختلافات والتعددية في المواقف لصالح الجماعة. أما عندما نعيش الفردية والاستقطاب الفكري والمذهبي والمناطقي والقبلي فإننا سننشغل في مواجهة بعضنا بعضا وسنوجه مواردنا وإمكاناتنا لتثبيت مواقفنا وتقديم مصالحنا وتأكيد رؤانا, وهذا بالتأكيد سيكون على حساب قضايانا العامة والوطنية. إذا أريد لنا أن نفكر بصوت عال فمن الضروري ألا تذهب أصواتنا في جدال بعضنا ومحاولة تسقيط الواحد منا الآخر والاستغراق في التنظير لقضايا وأمور تكرس فينا الانطواء على ذواتنا وشخوصنا, وبالتالي نجد أنفسنا مستهلكين في قضايا هي أبعد ما تكون قضايا ذات شأن وقيمة.

5 عدم الاستغراق في الفرضيات. :كيف نفكر بصوت عال وفي خزانتنا القليل من التجارب والقدر البسيط من الممارسة في الواقع؟ فكل فكرة جديدة وكل مبادرة واعدة نضع في طريقها الكثير من الافتراضات التي هي في النهاية تجهد أصحاب هذه الأفكار والمبادرات وربما تدعوهم إلى التخلي عنها والتنصل منها لما قد ينالهم من الإحباط وربما التشكيك في نياتهم ودوافعهم. علينا أن نتعلم كيف نعطي الفرصة للفكرة الجديدة مع قدر معقول من الدراسة والتخطيط لها من أن تنال حظها من التجريب, لأننا بتجربتها وإدخالها في دائرة الواقع قد نكتشف خطأ الكثير من الافتراضات التي أثيرت في وجهها, وهذا ما يؤكده الكثير من تجارب الحياة, فإن فشلت هذه الفكرة في تجربتها الأولى فقد تنجح في المرة الثانية وربما الثالثة بشرط أن نؤمن بها ونؤمن بأهمية أن نكرر المحاولة. وحتى عندما يتكرر الفشل فإن تجربة الفشل يمكن استثمارها للنجاح المقبل ومع الفكرة الجديدة. ومرة أخرى نحن في حاجة إلى ثقافة تشجعنا على تجريب الأشياء وتبني روح المخاطرة, ولكن كيف لنا ذلك وطلابنا لا يعرفون عن الأشياء ولا يعلمون حقيقتها إلا بشكل نظري؟ فإذا كانت حتى مادة العلوم وما في هذه المادة من تجارب ومادة الكمبيوتر التي هي في الأصل مهارة وممارسة ندرسها لهم بشكل نظري بحت وبكلام وصور فقط, أليس مثل هذا التعليم هو الذي أسهم في جعلنا نتكلم وننظر أكثر مما نعمل ونمارس؟

أخيرا علينا أن نعترف بأن الفكر ليس له صوت مسموع في حياتنا وليس له دور في معالجة قضايانا, صحيح عندنا مخزون وفير من العقائد, وصحيح عندنا الكثير من التصورات عن كل شيء حولنا, وعندنا الكثير من السجالات والتنظيرات والاجتهادات, ولكن ما ينقصنا هي الأفكار التي تشكل من هذه العقائد منظومة عقدية تطور من مجتمعنا, وما نحن في حاجة إليها هي الأفكار التي يمكنها أن تجعل من هذه التصورات والاجتهادات التي نمتلكها قوة تحرك من واقعنا وتنتشله من حالة الركود الذي يتسم به. ونحن في حاجة إلى قدر من الأفكار يكفي لتأمين بيئة مناسبة لممارسة واختبار كل هذه التنظيرات التي أتعبنا أنفسنا في إنتاجها. فالتفكير بصوت عال هو محاولة لجلب المزيد من الفكر والتفكير من أجل تأطير حياتنا. وعندما نفكر بصوت عال فستكون لنا أهداف واضحة ومجمع عليها, وسيكون عندنا نقد لمشكلاتنا وعيوبنا من دون خوف واستحياء, وسيتوافر عندنا إصرار على الفعل وليس فقط ممارسة ردة الفعل تجاه ما يفعله الآخرون, وسنكون أكثر ميلا إلى العمل كجماعة أو كأمة وليس كأفراد أو مجموعات متناثرة. دعونا نمارس التفكير بصوت عال وسنكتشف إننا كلما مارسنا التفكير بصوت عال أصبحنا أكثر قدرة على التحكم في مشكلاتنا وأكثر قابلية لاستيعاب خلافاتنا وتنوع مواقفنا وأكثر حماسة في تطوير وتوظيف قدراتنا, فهل سنجرب التفكير بصوت عال أم إننا سنبقى أمة صوتية لا يسمعها غيرنا ولا يحس بوجودها حتى من يعيش في دائرتها.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك