الدكتور يوسف السعيدي
منذ مدة ومصادر اعلامية تردد نية الحكومة العراقية بالاهتمام (أخيراً) بالقطاع الثقافي في العراق والاحتفاء ببعض رموزه الثقافية كما لوحظ من عناوين مهرجانات المحافظات وليس هذا مغزى الحديث. وانما التركيز على شاعر العرب الأكبر أو آخر شعراء الكلاسية المحدثة بتصنيف أدق، الخالد الذكر محمد مهدي الجواهري ودعاوى نقل جثمانه إلى العراق وذلك بعد قرابة عشر سنين على رحيله. وهو القائل ..حييت سفحك عن بعد فحييني يا دجلة الخير.. يا أم البساتين
يا دجلة الخير يا نبعاً أفارقه على الكراهة بين الحين والحين
وددت ذاك الشراع الغرّ لو كفني يحاك منه غداة البين يطويني
لقد عاش الشاعر الكبير متنقلاً بين المنافي منذ سبعينيات القرن الماضي، بل قبل ذلك، ووجد مقاما واحتفاء في أرض غوطة (دمشق) التي كانت موئلاً ومقاماً لكثير من أبناء العراق ورموزه الخالدة. وقد ثوى أديم الغوطة جثامين عراقيين كثيرين دون أن تتبرع الحكومة بمترين من أرض لأحدهم، باعتبار أن أرض البلاد وفضاءها طابو صرف لمن يحكمها. وما زالت هذه العقلية هي السائدة، ولا منفذ للوطن بغير الولاء لولاته. ولا يزال من يتوفى في الخارج يلزمه تصريح رئاسي لدخول بلده ميتا. وهذه أحد المسائل الحساسة والدقيقة التي ما زالت تعالج بشكل شخصي وحالات منفردة دون أن يصار إلى استصدار قانون صريح وواضح يعالج هذه الحالات الانسانية. ان نقل قبر الجواهري بعد مقاربة عقد على وفاته ليس سوى مسألة رمزية على الصعيد الشخصي والعائلي، ولكنها تسجل مكسباً سياسياً كبيراً للحكومة على أنه تقدير للأدباء. من حقنا أن نتساءل لماذا الجواهري تحديداً وليس البياتي أو غيرهم. وهل تعالج الأمور حسب التبعية الطائفية أو السياسية حتى بعد الموت. وهل كان الجواهري طائفياً في فكره أو شعره أو شعوره وسلوكه. أعتقد أنه لو كان حيا لرفض بشدة هذا التصنيف والنظرة الضيقة.
ان البلاد التي احتضنت الجواهري والبياتي وسواهم قادرة على احتضان جثامينهم، وعلينا جميعاً الاعتراف والتقدير في هذا المجال. ومقبرة العراقيين في دمشق أحد المعالم والشواهد التي ينبغي أن تبقى دالة على الطغيان والتشرد العراقي، بعيداً عن أيدي التزوير والتلاعب ومسخ الحقائق. تماماً مثل المقابر الجماعية ومراكز الاعتقال والتعذيب والتصفية الموروثة والحالية، فللتاريخ حرمته ولسانه.
وإذا أريد تكريم وتقدير الجواهري أو غيره من المنفيين والمهجرين، فيمكن البحث عن وسائل وأساليب أخرى، في صور.. نصب أو مقام أو متحف أو مكتبة أو مركز ثقافي أو جامعة أو شارع أو مدينة وغير ذلك. ان هوية العراق هي ثقافته، ورفعة الثقافة بتكريم رموزها وصناعها. أن غوته وشيللر وأدلبرت شتفتر ألمان أو تشيك ولكن لهم ساحات وتماثيل ومكتبات وشوارع باسمهم في غير مدينة نمساوية. ونحن بحاجة إلى تكريس تقاليد جديدة في الشارع والمدرسة والمكتبة والمقهى، ليتعرف كل فرد منذ صغره إلى رموز بلده ، وهذا يعني عدم الاقتصار على أسم محدد وفق مبررات معينة وانما اطلاق التقليد وبدون مواصفات سياسية أو غير سياسية. وهنا يبدو ما جرى للشاعر يوسف الصائغ أمراً محزناً ومخجلاً لما يثيره من حساسيات وأمور جانبية، كنا نتمنى أن يكون المسؤول أكثر وعيا لها، ودون الحاجة لاصدار التبريرات.
...
وعلى هامش هذا الموضوع أودّ التذكير أو لفت الانتباه إلى معاناة عدد غير قليل من رموزنا الثقافية والعلمية والفنية من كبار السن الأحياء.. الذين تجاوزا الثمانين أو السبعين أو الستين، وهم يكابدون أعراض الشيخوخة والمرض في بلدان الغربة والوحشة والعوز النفسي والاجتماعي، وأحسب أن رعاية أولئك وتسهيل أمور عودتهم إلى وطنهم وإحاطتهم بالرعاية والخدمة وطباعة ونشر أعمالهم وجهودهم الفكرية أكثر جدوى من تكريمهم بعد موتهم أو نقل جثامينهم. وفي مقدمة أولئك شاعرتنا الكبيرة نازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وزكي الجابر وفيصل حسون ويوسف عزالدين وأسماء كثيرة ومبدعة أخرى تتوزعها الوحشة والمرض والمنافي. وما أحوجنا في هذا الزمن الصعب واليأس المدقع إلى ممارسات مشرقة وقرارات إنسانية تعيد بعض البهاء والطمأنينة لعراق يتلاشى يوما بعد يوم.. وراء أفق مجهول.
https://telegram.me/buratha