( بقلم : أ. د. حاتم جبار الربيعي* )
مر العراق في حياته بمصائب وأهوال خاصة خلال عام 2003 وبعدها إذ بدأت العمليات العسكرية لإحتلال العراق في 20/3/2003 من قبل مايسمى بقوات الإئتلاف أو "إئتلاف الراغبين" بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، اذ بلغت القوات الامريكية 250000 جندي( 83%) والبريطانية 45000 جندي (15%) أما بقية الدول فهي كوريا الجنوبية وإستراليا والدانمارك وبولندا فتشكل نسبة قواتها العسكرية 2% من هذا الإئتلاف. وقد صدمنا , أسوة ببقية شعوب العالم , بأنه كيف لاتستطيع القوات البريطانية والأمريكية من إحتلال البصرة وبعض مناطق وسط العراق إلا بعد ثلاثة أسابيع من القتال بينما أستطاعوا خلال أربعة أيام وبسهولة من إحتلال بغداد في 9/4/2003 على الرغم من الأستعدات الكبيرة التي قامت بها القوات العراقية المسلحة. وأمام تلك المفاجأة تولدت صدمات أخرى ومن ضمنها مسألة حرق البنايات وسرقتها من قبل البعض بظاهرة سميت بالفرهود، ومن الأماكن التي تعرضت الى النهب والسلب وتركت جروحا عميقة في ذاكرة العراقيين هو سرقة المتحف الوطني العراقي ودوائر الدولة وكذلك الجامعات والمؤوسسات العلمية التي سنتناول ذكرياتنا معها خلال هذه الحلقات، مع اعترافنا بأننا لسنا مؤرخين تأريخيين ولكننا سننقل الأحداث المهمة والمؤثرة التي حدثت في جامعة بغداد كونها الجامعة الأم بالنسبة لبقية الجامعات ولعملنا بها وبصدق إن شاء الله تعالى.
1/ الإنتخابات الجامعية
لم أتوقع طوال حياتي الأكاديمية التي امتدت منذ عام 1976 بأني سأساهم في إدارة المؤسسات التعليمية فقد كنت مندمجا بتدريس الطلبة ومنشغلا ببحوثي واستشاراتي العلمية التي أقدمها للطلبة والباحثين كما لأني كنت مستقلا من الأنتماء للحزب الحاكم فهذا أبعدني من التعيين او الترشح لأي منصب علمي أو إداري، وكنت متمنيا أن يستمر هذا التوجه حتى بعد سقوط النظام عام 2003. ولصعوبة تحديد القيادات الجامعية الجديدة دعا المشرف الأمريكي على التعليم العالي الدكتور أندرو إلى إجراء الإنتخابات يقوم بها التدريسيون لتحديد رئيس الجامعة ومساعديه ومن ثم العمداء في كلياتهم. ولكن تحت الحاح زملائي وشعورهم بإمكانية مشاركتي في احدى المواقع العلمية في جامعة بغداد جعلني أفكر خصوصا وأن هنالك تدريسيين كانوا يودون الترشح في الإنتخابات وهم معروفون بعدم إخلاصهم حتى ان بعض هؤلاء صرحوا بأن عدم دخولهم الى المواقع القيادية سيتيح المجال للفئات الأخرى بالدخول ويعتبرون ذلك إساءة الى الدور القيادي الذي كانوا يمارسونه.
وفي يوم ألأربعاء 14/5/2003 إحتشد التدريسيون في قاعة بغداد (التي سميت فيما بعد بقاعة شهيد المحراب ) داخل مبنى جامعة بغداد في الجادرية وحضر تلك الانتخابات الحاكم الأمريكي جاي جانر والمقال في حينها (21/4/2003--12/5/2003) وحدث عدم إنضباط داخل القاعة بسبب رغبة البعض في إفشال تلك الإنتخابات وتم تأجيلها الى يوم السبت 17/5/2003. وبعد إستلام الحاكم الامريكي المدني بول بريمر (13/5/2003-28/8/2004) أصدر في مساء الخميس 15/5/ 2003 قرارات تنص بعدم أحقية أعضاء حزب البعث من الترشح لأي منصب وأبعاد الحاصلين على درجة عضو فرقة أو أعلى من دوائر الدولة العراقية، وأمام كل ذلك أصبح على التدريسيين المخلصين بقبول الترشح لشغل المواقع القيادية الجامعية.
وفي يوم 17/5/2003 حضرالتدريسيون مرة ثانية إلى قاعة بغداد داخل مبنى الجامعة في الجادرية لغرض إجراء الإنتخابات وقد طلب من الحاضرين للترشح لشغل منصب رئيس الجامعة ومساعد رئيس الجامعة للشؤون العلمية ومساعد رئيس الجامعة للشؤون الأدارية، وقد بادر بعض الزملاء بترشيحي للمنافسة على منصب مساعد رئيس الجامعة للشؤون العلمية وكان أشدهم حماسا الدكتور رعد المولى "الأستاذ في كلية العلوم الذي أستشهد بمنزله في 19/11/ 2005على ايدي مسلحين مجهولين ضمن مرحلة إستهدفت بها الكفاءات العلمية وهذا ما سنتوقف عنده في الحلقات القادمة " فوافقت على ترشيحي منتظرا ماسيقرره التدريسيون بانتخابات حرة ونزيهة دون وجود أو تدخل الأمريكان، وكانت الأمور أكثر تنظيما وهدوءا من الإجتماع السابق. وفي الحقيقة لم تكن سمعتي معروفة في بقية كليات جامعة بغداد اذ كنت في حينها تدريسي في كلية الزراعة في أبي غريب التي تبعد عن رئاسة جامعة بغداد حوالي 20 كم اذ قلما حضرنا في ندوات أو مناسبات رسمية في مبنى جامعة بغداد، لذلك وجدت من الضروري توجيه بعض الكلمات الى التدريسيين الحاضرين في القاعة لأبين لهم آرائي وتوجهاتي أثناء فترة تقديم السيرة الذاتية للمرشحين، اذ أعطي لكل مرشح فرصة التحدث من على خشبة المسرح حوالي خمسة دقائق وبعد أن دعاني رئيس هيئة الإنتخابات الى المنصة بدأت حديثي بآية من القرآن الكريم،
بسم الله الرحمن الرحيم (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمه الله عليكم اذ كنتم أعداء فالف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته اخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ). وكان لمعنى تلك الآية أثر كبير على الحاضرين وجلبت حماسهم وانتباهم إذ جاءت كتعبير وكرد فعل بأننا لازلنا متمسكين بإسلامنا رغم الإحتلال وإن وحدتنا هي الطريق لنجاتنا من المصاعب القادمة، التي زادت مع الأسف بسبب انتهاج الطائفية والعنصرية في الفترة اللاحقة. ومن الأمورالطريفة التي أتذكرها أنه كان يطلب من المرشح أن يذكر أنتماءه الحزبي أثناء تقديمه السيرة الذاتية حيث قلت بأني مستقل وسأستمر مستقلا مدى الحياة مجردا من الإنتماء لأي حزب، وبعد إلقاء نبذة مختصرة عن سيرتي الذاتية العلمية طلبت من الحاضرين التقييد بالضوابط التالية لغرض تحديد المرشح الواجب إنتخابه وهي:
أولا: توحيد الصفوف (التدريسيين وغيرهم) وتضميد الجراحات التي نزفت كثيرا.
ثانيا: تحقيق العدالة والمساواة التي أفتقدت كثيرا.
ثالثا: الإهتمام بالجانب العلمي ورفعه في هذه الجامعة العريقة.
رابعا: محاولة الإستفادة من الجهات الرسمية و الخيرية التي تقدم الدعم لغرض إعادة تأهيل الجامعة التي عانت من الحريق والسرقات.
وفي الواقع كانت لتلك الكلمات صدى واسع بين الحاضرين واحسست بأن هنالك اهتماما جيدا بها وتعبر عما يحتاجه العراقيون في تلك المرحلة الحساسة من حياتهم. وبعد فرز أصوات الناخبين تم الإعلان عن تحديد الأستاذ الدكتور سامي المظفر رئيسا لجامعة بغداد" الذي صار فيما بعد وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي في حكومة الدكتور إبراهيم الجعفري للفترة 3/5/2005-19/5/2006" والأستاذ الدكتور نهاد الراوي مساعدا لرئيس الجامعة للشؤون الأدارية "أستشهد على أيدي مسلحين مجهولين في 26/6/2007" وتسميتي مساعدا لرئيس الجامعة للشؤون العلمية بعد حصولي على عدد كبير من الأصوات مقارنة ببقية المرشحين الأربعة. وفي تلك اللحظات انتهت فترة الإنتخابات لأمارس بعدها مهام إستلام المنصب في أحرج الظروف التي مر بها العراق وهو مانتناوله في الحلقات القادمة إن شاء الله.
* مساعد رئيس جامعة بغداد السابق
https://telegram.me/buratha