( بقلم : محمد البيضاني )
منذ سن قانون اجتثاث البعث في زمن مجلس الحكم العراقي وإقراره لاحقا من قبل الجمعية الوطنية والدستور الذي نال ثقة الشعب ، منذ ذلك الوقت والأصوات المحمومة والمتضررة تتعالى بمظلومية البعثيين (المساكين!) وتتباكى عيون البعض على زوال امتيازاتهم ومراكزهم وأموالهم التي حصلوا عليها مقابل تفانيهم وتفننهم بقمع الشعب العراقي وقتل الآلاف من أبناءه.
وعندما تتكلم عن قضية المقابر الجماعية والأعداد الهائلة للضحايا الذين قتلوا بدم بارد أو دفنوا أحياء تحت أكوام التراب ، فكأنما تتكلم عن أسطورة تاريخية أو موقع اثري عفا عليه الزمن ويجب علينا نسيان هؤلاء ماداموا في عداد الموتى ! ، اما شرائح المعاقين ومبتوري الأيدي أو مقطوعي صيوان الأذن أو الموشومين ، فهم الآخرين ليسوا إلا معاقبين (قانونيا) اقتضت المصلحة الوطنية وفرض النظام ان يتحولوا إلى أناس مغضوب عليهم وهذا هو قدرهم !، وعندما تتكلم عن كنوز العلم في أعلام حوزة النجف الاشرف الذي صفاهم صدام جسديا وفكريا فكأنما تتكلم عن خوارج قد فرطوا في بيعة يزيد العصر وقتلوا بسيف جدهم بسبب مواقفهم الجهادية !! ، كل هذا وذاك لايمثل شيئا في حسابات هؤلاء المتباكين ، مادام همهم الأول والأخير: إنصاف الجلاد وإهمال الضحية ، فبدأت وسائل الإعلام المستفيدة سابقا من نظام البعث وبآلية مدروسة بالترويج لهذه الأفكار المنادية بإنصاف البعثيين ، واخذوا يشهرون بقانون اجتثاث البعث ويصفونه بـ( سيء الصيت) ،اما الوطنيون ـ الذين نادوا باجتثاث هذا الفكر الكافر إنصافا للشعب العراقي ولعوائل الشهداء والمغيبين والمعاقين ـ فقد اخذوا حصتهم من الشتائم والاتهامات بالعمالة وعدم الولاء للعراق وأعداء الوطن !!! .
وعندما انطلقت قوانا الوطنية من منطلق إعادة اللحمة الوطنية وبناء دولة قائمة على احتضان البريء وحمايته ومعاقبة المجرم بالوسائل القضائية المعروفة ، ارتأت وبمنطق بناء العراق الجديد ان تخفف من صرامة قانون اجتثاث البعث تجاه البعثيين كأشخاص لتشرع وتحت قبة البرلمان قانون جديد أطلق عليه بـ( المساءلة والعدالة ) الذي يعني وببساطة "مساءلة" جميع البعثيين عن تاريخهم وفيما إذا كانوا قد تلطخت أيديهم بدماء العراقيين أو الفساد المالي والإداري أم براءتهم من تلك التهم ، لتأخذ "العدالة" مجراها الطبيعي بمعاقبة من تثبت إدانته بالوسائل القضائية ووفق القانون ، وإعادة من تثبت براءتهم من تلك التهم إلى الحياة المدنية بين صفوف الشعب على ان يتبرءوا من فكر البعث ومتبنياته بصورة قطعية وعدم دخولهم إلى الحياة السياسية كمعتنقين لهذا الفكر التآمري. ان نص هذا القانون وروحه لايتناقض مع مبادئ الدستور العراقي ، الذي ينص وبصراحة على ان حزب البعث هو حزب محظور سياسيا في العراق ، ولايحق لمعتنقيه ان يتغلغلوا في الحياة السياسية من خلال الانتخابات أو السيطرة على مرافق الدولة المهمة والحساسة. ولكن وكنتيجة لتعطيل حتى هذا القانون " المعدل" فقد تغلغل البعض في مؤسسات عليا وحساسة كجهاز المخابرات العراقية وبعض مفاصل وزارة الدفاع وبعض المراكز المهمة في الوزارات الأخرى ، بل وحتى منظمات المجتمع المدني وحقل الصحافة وإلاعلام .....، وهو ما يشكل خطرا متناميا وإنذارا لنجاح المسيرة الديمقراطية التعددية في البلاد ، فحزب كالبعث وكما عرف عنه تاريخيا بأنه حزب مؤامرة وانقلابات لاينبغي له مطلقا وتحت أي مسمى ان يتطفل على مراكز القرار الحساسة بحجة مصالحة أو حسن نية أو مجاملات إقليمية أو لأغراض سياسية ومصالح ضيقة باتت معروفة للسياسيين فضلا عن أبناء الشعب العراقي ، فلا ينبغي ان نستخدم ورقة عودة البعثيين كتنصل من المساءلة العدالة وكخرق للدستور في سبيل بعض المصالح الآنية ، لان عوائل الشهداء مازالت تأن تحت وضع معاشي واجتماعي مزري وهي الاحق بالالتفات والاهتمام ممن اتخذ الفكر البعثي كسلاح وعقيدة .
وفاجأتنا وسائل الإعلام مؤخرا بان هنالك مساع لاحتضان البعثيين و( المقاومين !) في مؤتمر أطلق عليه "مؤتمر مصالحة " ، وقد صفقت بعض الأطراف لهذا المؤتمر فيما شعر الشعب العراقي بخيبة أمل وانتكاسة وقلق من عودة المجرمين ومعادلتهم الظالمة ، كما ان هنالك تسريبات إعلامية حول مساعي لتعديل قانون المساءلة العدالة (مرة أخرى ليتحول إلى قانون الاستجواب والعدالة ) والذي يسمح بعودة الآلاف البعثيين إلى مناصبهم القيادية السابقة في مؤسسات الدولة ، فانظر إلى حجم الكارثة إذا علمت ان مجرد تعطيل قانون المساءلة والعدالة الحالي أدى إلى عودة قسم كبير من المتورطين بدماء الشعب العراقي ، فماذا سيسمح القانون الجديد إذا ما علمنا انه ينص وبصراحة على عودتهم إلى وظائفهم السابقة وبغطاء قانوني ( لادستوري) ! ،
فكان تحرك الشيخ جلال الدين الصغير إلى المراجع الأربعة في النجف الاشرف وكنتيجة لمخاوف الشعب ، لمعرفة رأيهم بما يطرح حاليا من أطروحات مريبة تتجاهل القوانين التي شرعها ممثلي الشعب في البرلمان وعلى ضوء الدستور ، فكان رأي المراجع متوافقا تماما مع القلق الشعبي ، حيث أكد سماحة الشيخ الصغير بان : ( المرجعية الدينية قلقة من تغلغل البعثيين في مفاصل الدولة الحساسة وتأثيرهم على مصادر القرار بعد أن تم تعطيل العمل بقانون المساءلة والعدالة .. ) ، وبذلك فقد أصبحت تلك المخاوف حقيقة جلية للجميع بان الأطروحات الجديدة قد ساعدت كثيرا في تغلغل البعثيين وتحكمهم بمراكز القرار لان كبار البعثيين حتما لم ينزلوا بالمظلات من السماء إلى تلك المراكز وإنما دخلوا من الباب الواسع الذي فتحته لهم بعض الأطراف والشخصيات السياسية ، بعد ان رأينا في المقابل ذلك الهوان والضعف والتردد في المطالبة بحقوق وتعويضات المتضررين الفعليين من ممارسات النظام البعثي المقبور لاسيما أبناء الشهداء والمعاقين والثكالى والأرامل.
https://telegram.me/buratha