بقلم : علي الملا
خرجت يوم أمس لتنشق الهواء والسير في شوارع بغداد وشريط الذكريات يعرض أمام عيني صور متناقضة فمنها ما أبهجني ومنها ما أيقظ الجراح وأثار الشجون . ومع كل تلك المشاعر المتضاربة والأحاسيس المتناقضة رحت أساءل بغداد عن حالي وعن حالها فإرتجلت هذا البيت من الشعر :
بغداد ما زال الوثاق بمعصمي والشعر والكلمات تقتل في فمي
فبعد سنوات من الفراق وشحتها بثوب من الشوق على مقاس أيامها الطويلة نسجتها من عبق الرياحين الدمشقية عندما كنت أسير في أزقة الشام القديمة وأنا أتنشق عبق التاريخ وصوت القصائد النزارية الشفافة يتردد صداه بين جدرانها الحجرية ونبضات قلبي تجيبه باللحن الجواهري الخالد ( حييت سفحك عن بعد فحييني ... يا دجلة الخير يا أم البساتين ) فأشعر أن كل زقاق من تلك الأزقة يسجد لحروف تلك القصيدة الرائعة وتهتز شوارعها تحت قدمي من شدة التأثر بحروف ( دجلة الخير ) . وها قد مضت الأيام وتحول الفراق الى لقاء وطويت صفحة الغربة من كتاب حياتي لتصبح من عالم الذكريات التي لا تنسى .
فبينما كنت بالأمس ماشيا أتأمل الشوارع وأتصفح الوجوه , خطر ببالي سؤال أعيتني الأجابة عليه ودخلت في دوامة لا أعرف لها أول ولا آخر ( لماذا هاجرت من بغداد ولماذا وهجرتها كل تلك السنوات ) ؟ والحيرة ليست في الأجابة على هذا السؤال وإنما فيما يترتب على هذه الأجابة .
لقد تركتها لسنوات لا لأنني من القادة السياسيين ولا لأنني من كبار المعارضين وإنما لأنني رجل لا أجيد فن الصمت ولا أعترف بالضوابط الكمركية على الكلام ولا أطيق كمائنها المنصوبة على الشفاه وأنا أعلم أن تصدير الكلام أكبر جرما من تصدير المخدرات في زمن اللا قانون . وعندما رجعت الى وطني كان لساني وقلمي أكثر سعادة مني بهذه العودة الميمونة وكانت الحروف تتراقص بينهما على أنغام الحرية التي عزفتها قيثارة التغيير وأنا معهما أتمايل طربا وامشي مشية الخلاء وأنا أحمل حقائبي على طريق العودة .
وها أنا بعد عدة سنوات من الإياب وفي هذا اليوم الربيعي الجميل أسير في شوارع بغداد وأتنشق هواءها النقي ولكن المفارقة في الأمر أنني ما زلت أمشي وأتلفت يمينا وشمالا وكأنني في سنوات التسعينيات الغابرة , أحمل ذات الخوف القديم وأسير بنفس الحذر . فقد قبر النظام وتفسخت جثته في ملحودة جرائمه الآثمة ولكن كمارك الكلمات ومفارزها اللعينة ما زالت على حالها القديم تترصد الأفواه وتعتقل الألسن وتغتال الأقلام , وهذا هو الجزء المحير من الأجابة على السؤال ( لماذا هاجرت من بغداد ولماذاهجرتها كل تلك السنوات ) ؟ فبعد الشقاء والعناء والثمن الباهظ الذي دفعته كما دفعه غيري من العراقيين وجدت أنني مازلت مقيدا .
https://telegram.me/buratha