( بقلم : طالب عباس الظاهر )
توشحت قلوب عشاق الحسين قبل أجسامهم بالسواد ، وتغلغل الحزن في ضمائر محبيه قبل ان يجري على ألسنتهم بقدوم عاشوراء ؛ عاشوراء الأحزان..عاشوراء الفاجعة التي بكتها عيون السماء بدل الدمع دما ؛ فلم يبقَ في الأرض من حجر ومدر إلا وبكاها ، واقعة جليلة لم يشهد لها التاريخ نظيرا، لما أسفرت عنه من بشاعة ودموية ، بالكشف عما يضمره من وحشية هذا الإنسان ، حينما يجرجره الباطل الى ظلمة دهاليزه ، بعيدا عن نور الإيمان واشراقاته .
ورغم وقوع ملحمة الطف الخالدة في ظهيرة لاهبة على بقعة ارض في طرف الصحراء ، يقال لها الغاضرية أو نينوى أو النواويس أو كرب وبلاء أو الحير وغيرها من الأسماء ، ورغم كل المحاولات الخبيثة لطمس حوادثها ، ومحو كل اثر يدل على معالمها أو حجبها بستار النسيان ، وبكل ما أوتيت دولة الطغيان الأموي من أساليب المكر والتضليل والمؤآمرة ، وبكل ما أوتي حكمها الجائر من إرهاب وجبروت وعنجهية ترهيبا وترغيبا ، بل وبكل ما أوتي أشياعه وأتباعه على مر التاريخ حتى يومنا هذا ، إلا أنها ما فتئت تتوهج دماء عاشوراء ويسطع حضور كربلاء في الآفاق كالشمس ؛ فتأسر تفاصيل الملحمة الحسينية وقيمها الخالدة ، قلوب الأحرار وعقولهم ، بغض النظر عن جنسهم ولونهم وهويتهم كونها قضية إنسانية عظمى ، فراح أنصار كلمته التي اطلقها بدمه الطاهر؛ يزدادون يوماً بعد آخر حتى امتلأت بحب الحسين وكربلاء قلوب الناس في أصقاع الأرض ، وأضحى ضريحه المقدس مهوى للأفئدة ، وغدت كربلاء قبلة يؤمها أحرار العالم ، لتتحقق نبوءة الحوراء زينب الكبرى سلام الله عليها التي أطلقتها للزمن منذ ألف ونيف من السنين ، وهي توجه خطابها إلى معسكر ابن سعد الذي بلغ ما بلغه من نشوة الانتصار لحظتها قائلة: (ولينصبن على قبر أبي عبد الله علم ، وليجتهدن أئمة الضلالة على طمسه فلا يزداد إلا علوا وانتشارا) .
اجل يا سيدتي ومولاتي يا أم المصاعب؛ فيوم عاشوراء من أيام الله العظمى التي لا يمكن أن ينطفئ وهجه الخلاق لأنه مستمد الديمومة والخلود من خالق الأكوان جل وعلا، وكذا فان الثورة الحسينية باقية ببقاء القيم الإلهية المباركة التي نهض بها الحسين عليه السلام وخلودها على ثرى كربلاء ، ليغدو الإسلام محمدي النشأة لكنه سيظل حسيني البقاء والاستمرار. فكل قطرة دم طاهرة سقطت على رمضاء كربلاء في العاشر من المحرم عام 16 للهجرة هي أمانة في أعناقنا وأعناق الأجيال القادمة ، خاصة وها نحن نحيا موسم عاشوراء الحسين وفي كنف كربلاء المقدسة ، بأزوف ذكرى تجديد الولاء والبيعة ، بالتولي لأولياء الله والتبري من أعدائه ، من خلال السير على خطى الحسين الخالد ، واقتفاء اثر إشعاعات دمه المقدس ، والدماء الزاكية لأهل بيته وأصحابه.
مسؤولية عظمى حملتنا إياها نهضته المباركة في كربلاء ، ووصيته في عاشوراء الخالدة وقد كتب حروفها؛ بنجيع دم الإمامة مغمسة بنور الله جل جلاله،لأحياء أمرها بفهمها أولاً وتفهيمها ثانياً من خلال تحديد حقيقة الأهداف التي أراد بثها الإمام للإنسانية جمعاء من خلال أمة جده ، وماهية الرسالة الإلهية العظمى لنهضته ، مضحياً بكل تلك التضحيات الجسام ، التي لا يمكن إدراك مديات أفقها الفسيحة ، من أجل الأهم قطعاً ؛ وليس من أجل دين الأمة فحسب ؛ أمة جده الرسول الأعظم ، بل من أجل حياتها أيضاً ، والتي أريد لها أن تحيا ميتة! في ظل التزييف الأموي من بعد انقلابها بوفاة نبيها الاعظم ونكوصها عن حمل امانته في كتاب الله وأهل بيته ، والقضاء المبرم على روحها المتمثلة بالإسلام وقيمه الإلهية العليا ، والعمل بكل وسيلة لعزل الامة ، ومنع عودتها الى أسباب يقظتها وديمومتها وتطورها .
لذا أراد الحسين عليه السلام بتضحياته؛ بعث تلك الروح فيها من جديد ، لبناء دين الناس مضافاً إلى دنياهم وهو القائل قولته الشهيرة : "اني لا أرى الموت إلا سعادة والعيش مع الظالمين إلا برما". فوجود الأمم الحقيقي ليس فقط ينحصر بإقامة كياناتها المادية الزائلة ، مهما عظمت وأمتد بها الزمن ، إزاء خلودها بالوجود المعنوي ، وتأصيله من خلال الاهتداء بتعاليم الأئمة المعصومين، التي ضحى من اجلها الحسين عليه السلام بما ضحى به ، من اجل التمسك بالقيم الإلهية والمبادئ الاسلامية التي نزلت بها رسالات السماء منذ اصطفاء أبينا أدم عليه السلام ، ولحد إرسال خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله بالإسلام أكمل الديانات، وامتدادهم الطبيعي بالأئمة المعصومين عليهم السلام ، ومن ثم بمواليهم وشيعتهم ، ممن يهتدون بسيرتهم ومحاولة إشاعة فضائلهم والاقتداء بهم ؛ والإحياء لأمرهم الى يوم الدين.
https://telegram.me/buratha