( بقلم : وزير التخطيط العراقي - علي بابان )
قد يتساءل المرء عندما يريد أن يتناول العلاقة الإقتصادية بين العراق والولايات المتحدة... أية علاقة شراكة يمكن أن تنشأ بين بلد تعرض للإحتلال والهزيمة العسكرية وآخر كان في موقع الغازي والمنتصر...، وأي تكافؤ في العلاقة يمكن أن يتحقق في ظل معادلة كهذه...؟! وفي الواقع فأن هذه التساؤلات منطقية تماماً ويمكن ان ترد إلى ذهن أي إنسان قدر له أن يتابع مسار الاحداث في العراق منذ عام 2003 حتى الآن.
ان العراق كشعب وأمة لا يمكن له أن يسقط من ذاكرته كل مشاعر المرارة والتذمر... التي قد تغلب على النفس من هذا السلوك الأمريكي او ذاك، او أن يهمل تجربة ست سنوات من الوجود الأمريكي على الأرض العراقية بكل ما حفلت به من دروس وعظات، الا انه يجدر بنا في العراق أن نتطلع إلى المستقبل أكثر من تركيزنا على الماضي، وان نتعامل مع القضية بروحية مختلفة تركز على المنافع المشتركة والتحديات القادمة وتستلهم مصالح الوطن والمواطن في المقام الأول وقبل كل شيء خصوصاً ونحن نتجه لبناء بلدنا والارتقاء بمواطننا وتحسين نوعية الحياة على هذه الأرض. في العالم الذي يتطلع فيه الصغار والكبار من الدول على حد سواء إلى تحالفات وشراكات تمكنهم من القدرة على البقاء والتنافس حيث لم يعد من فرصة للصغار...لا غنى للعراق من ان يبني شراكة مع الولايات المتحدة الأميركية في مجال الإقتصاد وان يفعَّل تلك الشراكة ويضع تفاصيلها بالصيغة التي تخدم مصالحه...
لا يجوز رهن المصير العراقي لأي طرف كان... ولا أن يتحول مواطننا لإنسان تستلب هويته الحضارية والثقافية من قبل أية جهة.. لكن المصالح الإقتصادية لا هوية لها والتعاون التقني لا يفرض علينا نمطاً من الثقافة لا نريده.. وفي كل الأحوال ينبغي ان يملك العراق حق الأختيار في نمط التعاون الذي يريده... أياً ما تكن التوقعات حول دور الولايات المتحدة ومكانتها في المستقبل وبغض النظر عن الأزمة الإقتصادية الحالية التي تعصف بها وبالعالم، تبقى تلك الدولة في حسابات اليوم الأولى عالمياً بمعايير القوة الإقتصادية والسياسية وبأمكانها ان تفعل الكثير للعراق إذا قمنا نحن بأعطاء الشراكة مع الولايات المتحدة مضمونها السليم وأستطعنا ان نحصل من إتفاقنا معها على ما نريد.. نحن العراقيين نستطيع ان نحول إتفاقية الشراكة الإقتصادية والتقنية مع واشنطن إلى واقع حقيقي يفرض تأثيراته على إقتصادنا كما بأمكاننا أن نحيله الى إطار رمزي يفتقد إلى الفاعلية والمضمون...
التجربة الأميركية في بلادنا خلال السنوات الست الماضية لم تكن مشرقة تماما...ً والمشاريع التي يتحدث عنها الأمريكيون والتي نفذت في العراق لم يستشعر المواطن العراقي وجودها، وهنالك الكثير من المبالغات والإنفاق غير المبرر والمشاكل الفنية التي تحيط بتلك المشاريع ولعل ذلك راجع بشكل أساس إلى نقص الخبرة والمعرفة بالمجتمع والإنسان في هذا البلد والذي قاد إلى مثل هذه النتائج غير انه ينبغي أن نضع هذا كله وراء ظهورنا وان يدرك الأمريكيون انهم ارتكبوا أخطاء كبيرة في بلادنا ينبغي تصحيحها كما ينبغي إستيعاب دروس الماضي بشكل جيد وتجنب حدوثها في المستقبل.
هنالك تجارب لأمم حولت هزائمها العسكرية مع الولايات المتحدة إلى إنتصارات إقتصادية وتفوقت على الأمة التي انتصرت عليها عسكرياً في بعض المجالات، هذه اليابان وألمانيا وكوريا التي عقدت اميركا معها شراكات إقتصادية إستراتيجية تحولت إلى دول عملاقة وبنت إقتصادات ضخمة يشار لها بالبنان وأرست علاقة حضارية متطورة مع الدول التي انغمست في حروب معها وهذا درس لنا في العراق علينا ان ندركه مع أخذ الخصوصيات والفوارق بنظر الإعتبار.
الشعب العراقي لن ( يتأمرك ) ولن ينسى قيمه وعقائده وثقافته غير ان العراق.. الوطن والمواطن بحاجة إلى ان ينفتح على الدنيا كلها وان يأخذ من تجارب العالم المتحضر ومن حسنات التجربة الاميركية..نريد لنافذة العراق أن تشرع للرياح الصالحة من أي صوب جاءت لكننا لا نريد أبداً لهذه الرياح أن تقتلعنا من جذورنا... نحن البلد الأعرق حضارة والأعمق جذوراً بحسابات التاريخ... والولايات المتحدة -بحسابات- اليوم هي الاقوى والأغنى.. ونريد من خلال هذه الشراكة أن ننتج نموذجاً للمستقبل يجلب الخير لبلادنا ويمد مجتمعنا بدم جديد هو بأشد الحاجة له. نحن ورثة حضارة عربية إسلامية قاومت شتى أنواع الغزوات وقهرتها.. والعراقيون أمة عريقة.. راسخة يستندون إلى ميراث هو الأكثر ثراء ولذلك لا خوف علينا من شراكة نعقدها مع الولايات المتحدة نبني بها العراق وننفتح على حضارة الألفية الثالثة بكل إنجازاتها وعطاياها.
نرغب حقاً في إبرام عقد هذه الشراكة ولكننا نريد شريكاً يثبت لنا إخلاصه واحترامه وإلتزامه...نؤمن بصدق بجدوى هذه الشراكة ومنافعها غير ان جدية شركائنا ونزاهتهم شرط للنجاح...علينا ان نضع اليوم قبل الغد جدول أعمال هذه الشراكة الإقتصادية... وان نمتلك الرؤية التي تتيح لنا الإنتفاع بمزاياها... وعلينا أن نركز على الجوهر قبل المظهر.. وعلى المضامين والمتون قبل الحواشي..
نشر في مجلة الاوقات العراقية
https://telegram.me/buratha