بقلم : عبد الجبار كريم
لست في باب المقارنة بين جمهورية افلاطون والمدينة الفاضلة للفارابي ، واوجه الالتقاء والافتراق بقدر مااريد الاشارة الى نمطين ونموذجين في التفكير ، احدهما يدعو الى تكريس ارادة الانسان ومصالحه ورغباته ، والاخر يدعو الى التاسيس للمدينة الفاضلة في قبال الجمهورية ، أي الانتصار لقيم الفضيلة حتى ولو جاءت على حساب الجمهورية ، وباتجاه لايعكس ارادة الشعب بالكامل بقدر ماتكرس منظومة القيم التي يراد تكريسها في واقع الامة . فاذا كانت الجمهورية تكريس للقانون الروماني وامتداداته التاريخية في حياة المجتمع والدولة بالغرب ، فان المدينة الفاضلة تكريس للقيم الدينية وتجلياتها في نظام الدولة بصيغته الثيوقراطية ، وبالتالي محاكاة للحالة الشرقية ذات المنحى الاستبدادي والفرداني ، والانحياز نظريا وليس واقعيا للاتجاه الروحي المثالي بعيدا عن المؤسساتية ودولة القانون .
لاغرابة ان يتطور الغرب ويستحوذ على صدارة التاريخ البشري باستثناء بعض الفترات كالعصور المظلمة ، وذلك لان تطوره ارتكز على التاْسيس لدولة الانسان في اطار جمهورية افلاطون الشهيرة ، فيما راح الشر ق ولايزال يواصل محاكاته للجمهورية بالتكريس للمدينة الفاضلة ، بما تكتنفه من تاْصيل لارادة السماء وماتقتضيها من قيم ومثل عليا تحاول دون جدوى تكريسها في حياة الانسان حتى ولو جاءت على حساب رغباته وسعادته ومصالحه احيانا . من الطبيعي ان تتطور جمهورية افلاطون لتقدم اليوم انموذجا قابلا للاحتذاء حتى وان لم يكن متكاملا ، ذلك لانها بدات بمجموعة رسمية من القواعد متمثلة بالقانون الروماني ، ولاتزال فلسفة الجمهورية ترفد الحياة بالمزيد من التشريعات والنظم البشرية القابلة للتطبيق والتبني في مختلف ارجاء المعمورة ، فيما بقيت المدينة الفاضلة اسيرة التجارب المحدودة التي لاتتميز بالاستمرارية والتواصل والاستقرار ، ذلك لان الفضيلة بما تمثله من قيم مطلقة اصعب على التطويع لتكريسها كقواعد رسمية وقوانين تمتاز بصفة الالزام ، وذات طابع مدني كما هو الحال بالنسبة للجمهورية .
اذا كانت دولة القانون والمؤسسات والمجتمع المدني من افرازات جمهورية افلاطون ، فان انصار المدينة الفاضلة لايزالون ينبشون في بطون التاريخ عسى ان يجدوا ملامح للمجتمع المدني الديني ولكن دون جدوى ، لان النظم الشمولية هي اعجز من ان تكرس قواعد المجتمع المدني وهي تنحاز للمثل التي تؤمن بها كمحددات لافق تفكيرها ، وبالتالي مهما تقدمت تجارب هذه النظم الشمولية فانها ستبقى منحازة لتكريس مثلها على ارادة الانسان ، وتبقى الافضلية والانحياز للقيم والمثل ، ومن الصعب للقائمين على هذه النظم واصحاب الفكر الشمولي الانحياز المطلق للانسان وارادته ،لانها قد تهدد تحكيم ارادة الانسان اصل المثل التي جاءت بهم الى سدة الحكم .
قد يقول قائل ان علمانية الغرب هي ايضا تضع سقفا محددا للانسان لايستطيع تجاوزه ، واذا كان هذا الاشكال صحيحا فانه يصح على معاداة كل مايعطل ارادة الانسان بما يمثله من رغبات وارادة ومصالح ، كما ان المسالة مطروحة في اطار الحقائق النسبية ، وان المساحة الممنوحة للحريات اكثر بكثير مما هي عليه النظم الشمولية .هناك محاولات للتوفيق بين النظم الشمولية وقواعد المجتمع المدني ودولة المؤسسات ، ولكنها ستبقى دون المستوى المطلوب في عالم بات كالقرية ، ويسرع الخطى في تكريس كل رغبات الانسان وانطباق الدال على المدلول ، وحتى مع ظهور قراءات جديدة للدين منفتحة على حركة الواقع ، وتنحو منحى المؤسسات ، ولكن تبقى العملية صعبة وتكتنفها عراقيل كثيرة ، طالما لم يتم الانحياز الى ارادة الانسان كمعيار اساس وثابت ، وهذا يقتضي رؤية تتمايز كثيرا مع الانحياز الشديد للمقدس وتكريس الحقائق المطلقة والبحث عن رموز بدلا من ثقافة الحقائق النسبية والحياة الدستورية وقواعد المجتمع المدني .
https://telegram.me/buratha