( بقلم : غالب الياسري )
بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الخلق والمرسلين أبي القاسم محمد وال بيته الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين . السلام على الحسين وعلى علي ابن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى اصحاب الحسين وعلى السائرين على درب الحسين.
لم تكن كربلاء واقعة تاريخية وإنما معركة حضارية تجسدت فيها وتلخصت كل تجارب البشرية من آدم إلى يوم استشهاد الحسين ولاحت منها كل معاني الحياة وفلسفتها ورسمت للمستقبل خطوطه ووضحت للأجيال أهدافها حيث كانت أعظم معركة في التاريخ بين الحق والباطل كما جرى ذلك لآدم وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (ص) وعلي (ع) التي شكلت لنا الحسين في أروع مثال لقيم السماء، وبين قابيل والنمرود وفرعون وطغاة قريش وإبليس التي تجسدت في أرذل وأقبح صورة في التاريخ وهي يزيد بن معاوية.
هذه الحادثة التي اختصرت لنا الطريق لاستقراء واستنطاق كل التاريخ حتى يعيننا في تحدياتنا الحضارية بل تكفي هذه الحادثة لنشر القيم الحضارية في كل زمان وفي كل مكان وذلك بما سجلته كربلاء من بمعاني الحضارة وأسسها ومقوماتها وأسبابها. فكربلاء هي رمز التضحية من أجل القيم والمبادئ، وما حضارتنا إلا قيم ومبادئ نسعى لتحقيقها وما صراعنا إلا مع من يعارضها، فهل لنا مثال ورمز في التاريخ نتعلم منه كيف نحمي قيمنا، سوى الحسين، وإلا لو كان ممكن للدنيا أن تكون من غير قيم لآثر الحسين البقاء وما رجح أن ييتّم الأطفال ويشرّد النساء حتى أصبحت فاجعة تبكي فبكاه آدم والخليل وموسى ولعن عيسى قاتله وأمر بني إسرائيل بلعنه وقال من أدرك أيامه فليقاتل معه… وحديث قتل الحسين أبكى الرسول وهو حي فكيف به إذ رآه صريعاً في كربلاء ملطّخاً بالدماء وحوله أصحابه وأهل بيته متناثرين في الصحراء. إن لدم الحسين في كربلاء مؤشراً خطيراً ونهجاً قويماً كيف لا، وما للدم من عبر، وما من دم سال إلا وله آثاره كدم هابيل وأنبياء بني إسرائيل حتى دم تلك البقرة التي أمر الله بذبحها أو دم ناقة صالح التي بسببها دمدم على قومه وسواه، فما بال دم الحسين أطهر خلق الله في زمانه ألا يمكن على دمه أن تقوم أحداث وأحداث وتبنى حضارات.
إن دم الحسين سال عندما تصدعت أركان الحضارة المتمثلة في محورية الإنسان واستقامة القانون وعدالة الحاكم. عندما تحولت بمحو شخصية الإنسان وجعل المادة هي المحور بانحراف القانون وتبديل أحكام الله فبجور السلاطين وفسقهم انحدر البشرية في واد سحيق إلى أن وصلت أسفل السافلين عند يزيد، فثار الحسين منادياً بأركان الحضارة التي مُحقت فقال لا قيمة إلا للإنسان ولا عمل إلا بالشريعة ولا طاعة إلا لحاكم عادل، فما بالنا نحن وما لنا لا نتعلم منه؟ ونحن في عصر نصارع فيه حضارة المحرفين والتكفيريين.
حيث ترتب فقدان الحريات، إذ أصبحت الحرية في واقعنا لفظاً يقال وحروفاً تكتب لا جود لمعناه إنما هي ثوب مهلهل على جسد الديكتاتورية، وحتى هذه الحرية الدعاة تكون ملازمة للإنسان طالما كان ملكاً للمادة وخادماً لها، ومجرد محاولة انعتاقه منها يصبح غير مستحق للحرية وما يجري في العالم خير شاهد لذلك.إن نفس الأسباب التي من أجلها قام الحسين ما زالت تعشش في حاضرنا، فماذا يجب علينا أن نفعل؟! أنقول مثلما قال عبد الله بن عمر: علي بمسجد رسول الله (ص) أعبد ولا دخل لي فيما بين السلاطين أم نترجم ما قاله أبو هريرة: (الصلاة خلف علي أتم والطعام مع معاوية أدسم والجلوس فوق التل أسلم)، أم ماذا نفعل؟ حتى ننجح في وجودنا الحضاري، فحرام علينا أن نبحث هنا وهناك لمثال ثوري نقتبس منه ما يعيننا في وجودنا الحضاري وعندنا الحسين (ع) الذي يمثل نهضة حضارية جمعت أعظم صراع بين قيم السماء والأرض يمكن الاستلهام منها في كل زمان ومكان، وقد أثبت لنا التاريخ ذلك فبعد أربع سنوات قام سيلمان بن صرد بثورته وشكّل منها شعاراً (يا لثارات الحسين) ثم جاء بعده المختار ثم صالح وعبد الرحمن بن الأشعث وزيد بن علي بن الحسين ويحيى بن زيد إلى قيام أبو مسلم الخرساني، فسقطت قيم الأرض صريعة بوجهها الأول (الأموي) ثم تشكّلت مرة أخرى بوجهه المزوّر والقبيح.
هل يمكن لنا اليوم نشر القيم الحضارية حتى تغير وجه التاريخ؟ أم نجعلها في بوتقتها التي تحمل المظهر الحيوي من غير المساس بجوهرها الانفعالي. كيف ننقل ثورة كربلاء؟ ليس بالضرورة أن نفعل ما فعل الحسين، ولكن يمكننا أن نعرف أسس الثورة ومبادئها واستراتيجيتها وأهدافها، يمكننا أن تعلم أولاً كيف نضحّي من أجل القيم وكيف نعمل من أجل المبادئ ويمكن أن نفهم أن الحياة قيم ومبادئ إذا انتفت تنتفي معها الحياة، لا يعني أن نموت ولكن نعمل من أجل إنزال القيم إلى أرض الواقع حتى نموت دونها كما قال الإمام الحسين (ع): (ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما)، ويمكننا نقل كربلاء إلى واقعنا بأن نجعل الإصلاح هو غايتنا وتقدم الإنسانية إلى الأفضل هو هدفنا كما قال الإمام الحسين (ع): (ألا وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي) وأن نعيد كربلاء بأن نعيد لأهل البيت (ع) حقهم نبشر فضلهم ومذهبهم خاصة في هذا العصر الذي تعددت فيه المذاهب وكثرت فيه الفرق وكل يدعي الحق وهي أبعد منه ولا حق إلا آل محمد فكيف لنا أن نثبت للدنيا حقهم ونحن لم نعش كربلاء في حياتنا ولم نتحسس حرارة ذلك الدم الذي قال صاحبه قبل أن يتوسد التراب: (أيها الناس أنكم أن تتقوا الله وأن تعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم ونحن أهل بيت محمد (ص) أولى بولاة هذه الأمر عليكم من هؤلاء المدَّعين ما ليس لهم والثائرين فيكم بالجور والعدوان).
فبالحسين يمكن أن نكون حسينيين وبروحه يمكن أن نقاوم كل اليزيديين وببركته يمكن أن نكون أعواناً لصاحب العصر والزمان الوي المنتظر (عج) الذي أبى الله إلا أن يعيد به حق أهل البيت (ع) الحضاري بين قيم السماء وقيم الجاهلية حين تسقط الأخيرة صريعة، فتملأ الدنيا بالخير والأمان وحينها تكون الحضارة الإلهية نتاجاً عظيماً لقيم السماء والتي ثار من اجلها إمامنا ومقتدانا الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.
https://telegram.me/buratha