( بقلم : حسن الهاشمي )
لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال : إنّ أمقت عبيدي إليّ الجاهل المستخفّ بحقّ أهل العلم، التارك للإقتداء بهم ، وإنّ أحبّ عبيدي إليّ التقيّ الطالب للثواب الجزيل، اللازم للعلماء، التابع للحلماء، القابل عن الحكماء.( اُصول الكافي : 1 / 35).وكان (عليه السلام) يكرم طلاّب العلوم ويرفع منزلتهم ويرحّب بهم قائلاً : مرحباً بوصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان إذا نظر إلى الشباب وهم يطلبون العلم أدناهم إليه وقال : مرحباً بكم أنتم ودايع العلم، ويوشك إذ أنتم صغار قوم أن تكونوا كبار آخرين.( الدرّ النظيم : 173).
هكذا كان الإمام السجاد عليه السلام يشجع على طلب العلم ويوقد مصابيحه لهداية الأمة من الضلال الأموي إلى النور الإلهي، لقد فتح الإمام (عليه السلام) آفاقاً مشرقة من العلم لم يعرفها الناس من ذي قبل حيث عرض لعلوم الشريعة الإسلامية من رواية الأحاديث الشريفة الصحيحة عن جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، عبر سلسلة نقية لا يرقى إلى رواتها أدنى شك، تبدأ بسيدي شباب أهل الجنة، وتمر بأمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) وتنتهي برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فالوحي المقدس...اتجه الإمام السجاد زين العابدين (عليه السلام) ـ بعد ملحمة كربلاء ـ صوب العلم لأنه وجد فيه خير وسيلة لأداء رسالته الإصلاحية، كما وجد فيه خير ضمان لهداية البشرية وجعلها على السكة الصحيحة، لقد أنبرى الإمام (عليه السلام) إلى إنارة الفكر العربي والإسلامي بشتى أنواع العلوم والمعارف، وطالما دعا ناشئة المسلمين إلى الإقبال على طلب العلم، وحثهم عليه، وقد مجَّد طلابه، وأشاد بحملته، وقد نمت ببركته الشجرة العلمية المباركة التي غرسها جده الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأقبل الناس ـ بلهفة ـ على طلب العلم ودراسته فكان حقاً من ألمع المؤسسين للكيان العلمي والحضاري في دنيا الإسلام.
وإلى جانب عرضه للحديث فقد قام الإمام (عليه السلام) بعرض الفقه والتفسير، وعلم الكلام، والفلسفة، ومن خلال تلك العملية البناءة وعبر خمس وثلاثين سنة وهي مدة إمامته (عليه السلام) حيث استطاع أن يخرج من مدرسته الإسلامية رواة حفاظاً، وفقهاء، وقادة فكر يعدون من الرعيل الأول، وكان فيهم الصحابي، والتابعي، وسواهم... ويقول بعض المترجمين له عن ذلك: (إن العلماء رووا عنه من العلوم ما لا يحصى)، وهكذا فلقد أصبح تلامذة الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذين تخرجوا من مدرسته الرائدة فيما بعد بناة للحضارة الإسلامية الشامخة ورجال فكرها وتشريعها وأدبها الإسلامي.
أما الثروات الفكرية والعلمية التي أثرت على الإمام زين العابدين (عليه السلام) فإنها تمثل الإبداع والانطلاق والتطور، ولم تقتصر على علم خاص، وإنما شملت الكثير من العلوم كعلم الفقه والتفسير وعلم الكلام، والفلسفة، وعلوم التربية والاجتماع، وقد عني بصورة خاصة بعلم الأخلاق، واهتم به اهتماماً بالغاً، ويعود السبب في ذلك إلى أنه رأى انهيار الأخلاق الإسلامية، وابتعاد الناس عن دينهم من جراء الحكم الأموي الذي حمل معول الهدم على جميع القيم الأخلاقية فانبرى (عليه السلام) إلى إصلاح المجتمع وتهذيب أخلاقه، ويقول عنه الحكماء: إنه حين استسلم الناس لشهواتهم تابعين لملوكهم جعل الإمام يداوي النفوس المريضة بالصرخات الأخلاقية والآيات السامية(نظرية الإمامية: ص 350). لقد عالج الإمام (عليه السلام) بصورة موضوعية وشاملة القضايا التربوية والأخلاقية، وبحوثه في هذا المجال من أنفس البحوث الإسلامية وأدقها في هذا الفن، ولعل من أجمل تلك الثروات بل من أهمها وأكثرها عطاءً في تنمية الفكر الإسلامي هي أدعيته الجليلة التي عرفت بالصحيفة السجادية، والتي أسماها العلماء تارة بزبور آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأخرى بإنجيل آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعدوها بعد القرآن الكريم، ونهج البلاغة في الأهمية وهي ـ بحق ـ منهج متكامل للحياة الإسلامية الرفيعة، وذلك بما حوته من معالم الأخلاق، وقواعد الاجتماع...
إنّ حالة الجمود الفكريّ والركود العلميّ التي أصابت الاُمّة الإسلامية بسبب سيطرة بني أميّة على الحكم كانت تستدعي حركة فكرية اجتهادية تفتح الآفاق الذهنية للمسلمين كي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنّة بروح المجتهد البصير، وهذا ما قام به الإمام زين العابدين (عليه السلام) فانبرى إلى تأسيس مدرسة علمية وإيجاد حركة فكرية بما بدأه من حلقات البحث والدرس في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) وبما كان يثيره في خطبه في صلوات الجُمَع اُسبوعيّاً.أخذ الإمام (عليه السلام) يحدّث بصنوف المعرفة الإسلامية من تفسير وحديث وفقه وعقائد وأخلاق، ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين ويمرّن النابهين منهم على التفقّه والاستنباط، وقد تخرّج من هذه الحلقة عدد مهمّ من فقهاء المسلمين، وكانت هذه الحلقة هي المنطلق لما نشأ بعد ذلك من مدارس فقهية وشخصيات علمية(راجع مقدمة السيد الشهيد محمد باقر الصدر للصحيفة السجّادية).
ويؤكد ما ذكرناه ما جاء في رسالة الحقوق من الإشادة بفضل العالم وحقوقه على المتعلّمين من التعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الإستماع إليه والإقبال عليه وعدم رفع الصوت عليه والدفاع عنه وستر عيوبه وإظهار مناقبه وعدم مجالسة أعدائه وعدم معاداة أوليائه، كما نلاحظ تأكيده على عدم كتمان العلم وعدم التجبّر بالنسبة للمتعلّمين وحسن الإتقان في فنّ التعليم وعدم ابتغاء الأجر المادّي على التعاليم.كلّ هذا يشير إلى تخطيط واضح في سلوك الإمام (عليه السلام) لإيجاد حركة ثقافية واسعة وتأسيس تيّار ثقافي يتسنّى له أن يقف أمام التيّارات المنحرفة والتخطيط الاُموي الذي لم يرق له تفتّح الوعي الإسلامي عند أبناء المسلمين.وقد خرّجت مدرسة الإمام زين العابدين (عليه السلام) كوكبةً من العلماء الفقهاء والمفسّرين الذين سطعت أسماؤهم في العالم الإسلامي، وإليهم يعود الفضل في دفع عجلة الإحياء العلميّ في ذلك العصر الرهيب وما تلاه من عصور، ونشير فيما يلي إلى الأسماء اللاّمعة في هذا الصدد:
وفي مقدمتهم الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) وأخواه: زيد والحسين ابنا عليّ بن الحسين بن عليّ (عليهم السلام)، وكذلك أبان بن تغلب بن رباح، وإسماعيل بن عبد الخالق، وثابت بن أبي صفيّة وهو أبو حمزة الثمالي وأنّه كسلمان الفارسي في زمانه، وكانت الشيعة ترجع إليه في الكوفة لإحاطته بفقه أهل البيت (عليهم السلام)، ورشيد الهجري : من أبطال الإسلام وأعلام الجهاد، وقد صلبه الاُمويّون من أجل عقيدته وولائه لأهل البيت (عليهم السلام)، وزيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، كان يتولّى صدقات رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكان جليل القدر كريم الطبع زكيّ النفس كثير البرّ، وسعيد بن جبير الذي استشهد بأمر الحجّاج في شعبان ( 95 هـ )، وسعيد بن المسيّب المخزومي: من كبار التابعين، وقال فيه الإمام زين العابدين (عليه السلام): إنّه أعلم الناس بما تقدّمه من الآثار وأفصحهم في زمانه، وكان يبجّل الإمام كثيراً( راجع تفصيل البحث عن رواة حديث الإمام وتلامذته ( حياة الإمام زين العابدين : 517 ـ 587 ).
إنّ هؤلاء بعض تلامذته والرواة عنه، على أنّ الإمام (عليه السلام) كان يربّي الموالي بشكل ليس له نظير، وكلّ من أعتقه الإمام يمكن أن يعدّ ممّن تربّى على يد الإمام ، فلا ينحصر تراث الإمام فيما كتب وما روي عنه فقط ، بل يمكن أن يتّسع لكلّ عمل تربوي صدر عن الإمام وبقيت آثاره في المجتمع الإسلامي ولو كان متجسّداً في سلوك هؤلاء الموالي وأفكارهم واتجاهاتهم .وقد رأى الإمام زين العابدين (عليه السلام) محنة الأمة وهي تعيش سياسة التجهيل التي فعّلتها بنو أمية في أوساط الأمة، وما هي فيه من أخطار مدمرة لوجودها وكيانها، فرفع (عليه السلام) مناراً للعلم، ودعا شباب الأمة إلى التحرر من قيود الجهل، حيث قام بتأسيس مدرسته الفكرية الإسلامية من أجل إيجاد حركة نهضوية فاعلة تمهد للتغيير على مدى الدهور.فقد كان المسجد النبوي الشريف، ودار الإمام (عليه السلام) يشهدان نشاطاً فكرياً من الطراز الأول، حيث استقطب الإمام (عليه السلام) خلال تلك الفترة طلاب المعرفة الإسلامية في جميع حقولها وأغراضها لا في المدينة المنورة ومكة المكرمة وحدهما وإنما في الساحة الإسلامية بأكملها.
لقد كان الأمويون يشعرون بدخالتهم على هذه الأمة، وأنهم ليسوا أهلاً لقيادتها، وإنما فرضوا سلطانهم عليها بقوة السلاح، وإنما معدن الحكم والقيادة للإمام علي بن الحسين، فلذلك كانوا يحقدون عليه، لما كان الإمام يتمتع بشعبية هائلة، فقد تحدث الناس - بإعجاب - عن علمه وفقهه وعبادته، وعجبت الأندية بالتحدث عن صبره، وسائر ملكاته، وقد احتل قلوب الناس وعواطفهم، فكان السعيد من يحظى برؤيته، والسعيد من يتشرف بمقابلته والاستماع إلى حديثه.
وقد شق ذلك على الأمويين، وأقضّ مضاجعهم وكان من أعظم الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك، فقد روى الزهري أنه قال: (لا راحة لي، وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا)( حياة الإمام الباقر ج 1 ص 51) وأجمع رأي هذا الخبيث على اغتيال الإمام حينما آل إليه الملك والسلطان، فبعث سماً قاتلاً إلى عامله على يثرب، وأمره أن يدسه للإمام (الإتحاف بحب الأشراف ص 52 الصواعق المحرقة ص 53) ونفذ عامله ذلك، وقد تفاعل السم في بدن الإمام، فأخذ يعاني أشد الآلام وأقساها، وبقي حفنة من الأيام على فراش المرض يبث شكواه إلى الله تعالى، ويدعو لنفسه بالمغفرة والرضوان، وقد تزاحم الناس على عيادته، وفي 25/ محرم/95هـ لبى نداء ربه وهو (عليه السلام) يحمده، ويثني عليه أحسن الثناء على ما رزقه من الشهادة على يد شر البرية.
https://telegram.me/buratha