( بقلم : رياض الفرطوسي )
في الليل في مقهى - البالي بامستردام - وعلى حائط المقهى الضاج بالالوان ثمة لوحة جدارية لقصر الحمراء في الاندلس وهي لوحة مفعمة بالضوء والنور والزرقة مثل براري طليقة , بدا كما لو ان كل ما يمت لهذه اللوحه من تاريخ وحضارة يهبط بانتظار تدوين ذاكرة تلك الحضارة الخضراء التي تعمق الشعور بالتامل لما وصلت له الحضارة الاسلامية بفناءاتها واتجاهاتها الفكريه والعلميه والثقافيه .. نسيت صوت المطر الذي كان يهبط فوق نوافذ المقهى ولم يكن امامي سوى ان ادون فصلا في اثر تلك الحضارة على تطور الفكر الغربي ....ان قراءة نقدية وجدية واسعه يقوم بها الافراد والمؤسسات حول الحضارة الاسلامية ودورها في الفكر الغربي أمر ملح وجدي ومصيري , في واقع التحول الحضاري وفي طيات عصر الثقافة والمعلومات والاختراعات المدهشه والمتواصلة . ان التعريف المعتمد للحضارة مع اختلافات كثيره هي محاولات الشعوب الاستكشافيه في التفكير والاختراع والعمل والنتظيم من اجل استغلال الطبيعه بغية الوصول الى مستوى حياتي افضل.اتفق اكثر الباحثين والمختصين على مختلف توجهاتهم وميولهم على ان الشرق هو مهبط الحضارات , واصبح هذا الامر غير قابل البته للمناقشة او الجدل وهناك الكثير من المفكرين والمستشرقين الغربيين المنصفين الذين طرحوا افكارهم ودافعوا عنها في هذا الاتجاه .
بعد انتشار الاسلام خارج الجزيرة العربية التقى بحضارات اخرى ذات اسسس قويه ولها مراكز علمية وتعليمية مما حدى بالعلماء العرب الى ترجمة الكتب الفلسفية والعلمية من يونانية وسريانية ..... الى اللغة العربية , ومن هنا فقد قامت الحضارة الاسلامية ممثلة بعلماءها بالتطور العلمي والتقني في مجالات هامة من كيمياء ورياضيات وفلك , وفن عمارة وزراعة ونسيج ........
امتد تأثير الحضارة الاسلامية الى مناحي عدة منها ما هو ثقافي وطبي وعلمي , فنجد العلماء العرب هم من وضع اولى الاسس العملية والطبية لممارسة الطب في اوربا ولازالت الابنية في الاندلس مثل الحمراء وفي غرناطة وفي قرطبة والجيرالدافي في سفيل خير شاهد على تلك البصمات المعمارية المتميزه التي تركتها الحضارة الاسلامية في غرب اوربا , ويمتد اثر تلك الحضارة في اتجاهات عدة منها ما هو تكنولوجي ترك هذا الاثر بصماته في الحضارة الغربية بين عام 800 و 1450 ويلاحظ انه يمكن ان يكون شكل الحضارة الغربية مختلفا بدون ارث العلماء المسلمين في كل من مصر وقرطبة وبغداد والقاهرة.
ارتقت الحضارة الاسلامية في الاندلس بشكل رائع ومميز وخاصة في غرناطة وهي اخر المعاقل لمسلمي اسبانيا خلال مئتي سنة , وهي عاصمة الاندلس وما احاط بها من مقاطعات فقد تمتعت بمستوى من الحرية الدينية وزدهار علمي وفني لم يحظ به اي جزء اخر من اوربا , مثل الشعر والفن المعماري , حيث طرح المثقفون اسئلة الفلسفة والدين والطب والدواء , وقام حكام قرناطة العرب بتطوير نظام الري الزراعي والذي كان مستعملا حتى زمان الشاعر لوركا , حيث الماء ينحدر من شلالات سيرا , ويغذي المدينة وما جاورها حيث الحقول والمزارع, وهناك تطور اخر في المجال العلمي والثقافي والفكري تمثل في وصول كتب العلماء المسلمين الى المراكز العلمية الاوربية بعد ترجمتها الى اللغات الاوربية وبقيت هذه الكتب مرجعا مهما واساسيا لعدة قرون في اوربا . مثل كتاب _ القانون _ لابن سينا وهو الذي عرف في الغرب بانه امير الاطباء كان له الامتياز الاعلى في كل ما يتعلق بما هو طبي في اوربا لعدة قرون فقد قام بتطوير علم الادوية والممارسات السريريه والامراض النفسيه , وكتاب ابي القاسم الزهراوي مرجعا اساسيا في جامعات اوربا ومدارسها مثل مدرسة سالنيرنيو في ايطاليا خلال نهايات القرون الوسطى حيث تطرق في بحوثه واكتشافاته الى مرض الاستسقاء وامراض اخرى وخاصة الامراض الوراثية بالاضافة الى استخدامة وابتكار تقنيات جديدة في الجراحة واستعمال الخيط الذي استخلصه من امعاء القطط , وكتب جابر بن حيان في الكيمياء, وابن رشد في الفلسفة الذي عرف كافضل التنويريين الاسلاميين ,ربط بين الاسلام والفلسفه حيث نقل للغرب تراث الاغريق وطرح العلاقة مع الاخر والحوار الحضاري الذي نحن بامس الحاجة له في الوقت الراهن , ويبدو انه كان يلمح الى ضرورة فصل موضوعين اساسيين الاول الشرعية وما يقتضي لها من تخصص في الفقة واللغة والثاني الفلسفة وما يقتضي لها من تخصص في المناحي الفلسفية ويضع قنوات فيما بين كل العلوم دون تداخل .ويستشهد المستشرق الاسباني مارتينيز على تاثير الحضارة الاسلامية في اوربا بقوله لولا القرون الثمانية للحضارة الاسلامية في الغرب لبقيت اوربا متخبطه في ظلمات الجهل والتخلف. وقد بقى هذا الارث شاخصا للنهضة العلمية والثقافية الاوربية , فالثقافة الاسلامية شكلت حضارة تميزت بالعمق والشمولية في عصور لم تكن بقية الحضارات قد تكونت بعد لذلك اثرت في تلك الحضارات مما جعل اوربا تستند في بداية نهضتها الى القنوات العلمية المتقدمة من الحضارة الاسلامية كالهندسة المعمارية حيثت تميزت العمارة الحديثة بنماذج لازال قسم منها موجودا تمثل بالزخرفة والفنون , والعمارة المشبعة بالفن الاسلامي _ العمارة التي هي انعكاس لحضارة الانسان ومفاهيمه وتفكير مجتمعه ومثقفيه .
ان التعايش الحضاري يجب ان يستمر وان لا يقتصر على الماضي وانما يجب ان يبقى فالحضارات لا تتصادم وانما تتلاقح لكي تساهم في اشاعة التسامح والحوار والتقارب والتفاعل .. فالحضارة الغربية ( الحضارة الحديثة ) هي حضارة انسانية لانها استفادة من كل الحضارات التي سبقتها ومنها الحضارة الاسلامية فتفاعلت معها وخرجت لتكون حضاره حديثة .
https://telegram.me/buratha