المقالات

كثيـر مـن الاقتصـاد.. قليـل مـن السيـاسيـة


مقال لوزير التخطيط العراقي الدكتور علي بابان منشور في مجلة الاوقات العراقية

العلاقة بين السياسة و الإقتصاد أشبعت بحثا ً وتمحيصا ً في ارجاء العالم الواسعة، واستقرت التجربة الإنسانية المتحضرة في هذه القضية عند ثوابت واساسيات تحولت الى ممارسة واقعية نهضت عليها أمم و ازدهرت بسببها شعوب... لقد توصّل العالم المتحضر في هذه القضية الى قناعة راسخة مفادها ان لاقوة لأمة بلا إقتصاد مزدهر.. ولا إستقرار لمجتمع بلا رخاء مادي... ولا تماسك لدولة او نظام بلا شعور عام بالرضا عن المستوى المعيشي،...القوة السياسية إذا لم تستند الى إقتصاد متين؛ فأنها عرضة للتلاشي والسقوط وما تجربة الإتحاد السوفياتي السابق عنا ببعيدة وهناك العديد من الشواهد، الإقتصاد القوي هو بالتأكيد قوة سياسية ولكن العكس ليس صحيحا ً دائماً، المنتصر في المعارك كما يقول نابليون: هو الذي يملك أخر دينار وليس المنتصر من يملك أخـر طلقة.

في العراق اليوم الكثير من السياسة والقليل من الإقتصـاد، لدينا حجم هائل من الشعارات والبرامج والأيديولوجيات والصراعات التي تندرج تحت تعريف السياسة ولدينا القليل من الخطط والرؤى والبرامج والإستراتيجيات الإقتصادية، وهـذا وضع معتل لا ينبغي له ان يستمر، نملك الكثير من الزعماء والمتزعمين والخطباء المفوهين والقادرين على الحديث في السياسة وشؤونها ولدينا عدد ضئيل ممن يتحدث عن هموم البناء وتحديات الإقتصاد وتصورات التنمية، في دول العالم المتحضر تتمحور السياسة حول الإقتصاد وتدور في فلكه وفي بلادنا يحدث العكس، الناخب في الدول المتقدمة يقرر أختياراته في ضوء برامج المرشحين الإقتصادية وسجلهم في هذا الجانب وليس وفق انتماآتهم السياسية، وفي العراق كل شئ خاضع للسياسة وتصنيفاتها.

نظرة واحدة مستبصرة لأوضاعنا تدلنا على أن الازدهار المعاشي يمكن ان يصنع الكثير للمجتمع العراقي، وأن يقلب المعادلات السياسية رأسا ً على عقب ويعيد رسم الخارطة الحزبية في مجتمعنا. الرخـاء يمكن ان يلغي التطرف بكـل صـوره واشكاله، مساحات الحـرمان فــي مجتمعنا هـي بالضبط مساحات التطـرف والتشدد فيه، وحيثما كان هناك مواطن عراقي واحد يشعر بالعـوز والحاجة فأن هناك قنبلة موقوتة في بنياننا الإجتمـاعي قد تنفجـر اليوم او غداً، السلم الاهلي مرتبط برضا المواطنين ولا يمكن لنا ان نتوقع سلما ً وأمنا ً في مجتمع تضربه أعاصير الحرمان والمعاناة.

في ظل الفقر والعوز والمعاناة كل قيمنا الإجتماعية مهددة، والعالم الإسلامي اليوم ونحن جزء منه يواجه هجمة حضارية لانه لم يستطع ان يبني نموذجاً متقدماً في بلدانه، ولا ان يجلب الرخاء لمواطنيه، التخلف الإقتصادي ليس قدرالمجتمعات المسلمة بل العكس هو الصحيح تماماً، وما لم تحصّن مجتمعاتنا نفسها بالازدهار الإقتصادي فأنها ستكون عرضة لأخطار شتى لا حصر لها.

في مجتمعنا العـراقي محرمات كثيرة سقطت تحت وطأة الحاجة والحرمان والمعاناة، هذه حالة يجب ان يفكر فيها السياسيون ويتمعنوا في نتائجها لا ان يسجنوا انفسهم داخل شرنقة من الشعارات والايديولوجيات التي لا تطعم خبزاً، عندما فرض الحصار الإقتصادي على العراق في عام 1991 اتضح لنا اننا لانملك إقتصاداًً راسخاًً محصنا يستطيع ان يتغلب على الحصار وان يهزمه ومنذ تلك اللحظة هزم العـراق وسقط مجتمعه، حدث هذا في 1991 ولم يحدث في عام 2003 عندما جاءت القوات الامريكية الى العراق، كان الإقتصاد العراقي اوهى من بيت العنكبوت؛ ولذلك كانت النتيجة واضحة منذ اول يوم من ايام الحصار. لافائدة ولاجدوى من الحديث عن قيم ومبادئ وكرامة وسيادة في ظل الفقر والتخلف والعوز والمعاناة، والايديولوجيات التي تقود الى التراجع هي ايديولوجيات فاشلة حتماً؛ لأنها عجزت في اختبار الحياة.

علينا ان نسترجع قيم الأسلام الأصيلة التي يعلن الكثيرون في الساحة السياسية العراقية تمسكهم بها، علينا ان نتذكر بأن هدف الانسانية في الحياة كما يصوره القرآن هو عمران الأرض وانه وفق هذا التكليف استحق الإنسان حق الخلافة في الأرض، علينا ان نتمعن في التوجية الإسلامي (كاد الفقر ان يكون كفراً) و(لاتجيعوهم فتكفروهم)، هذا التلازم بين الفقر والكفر، هو تحد للمجتمعات الأسلامية ومجتمعنا العراقي جزء منها. نريد ان نرد الإعتبار للإقتصاد ومسائله وقضاياه وتحدياته في العراق بعد ان اهالت السياسة والايديولوجيه والحزبيات والطائفيات التراب عليها. نطمح لتصحيح الإختلال المتمثل بالإهتمام بمسائل السياسة على حساب مسائل الإقتصاد ونأمل في ان نجعل الأقتصاد ومهماته محور الحياة السياسية والشغل الشاغل للمجتمع والمواطن. قد لاتبدو هذه المهمة سهلة في ظل الوضع العراقي الراهن بكل معطياته، غير انها ليست مستحيلة..، وانه تحد قررنا ان نخوضه مهما كانت الصعوبات؛ لأن وطننا يستحق ذلك.

هنالك من يتساءل كيف يمكن لمجتمع تحاصره المصاعب السياسية من كل جانب ان يولي وجهه صوب الإقتصاد، ويدير ظهره لتلك التحديات ويتغافل عنها، فيما هي تستهدف وجوده وكيانه؟ الذي نقوله هو: ان تركيزاً للانظار على الإقتصاد والازدهار بإمكانه ان يعيد ترتيب الأولويات لأي مجتمع وان يدخل تغييراً جذرياً على اهتمامات الوطن والمواطن، الرخاء يمكن ان يلغي الكثير من إشكاليات السياسة، لا داخل المجتمع الواحد فقط وانما حتى على صعيد العلاقات مع الدول، وعندما تصبح المصالح الإقتصادية الاهتمام الأول للأفراد والمجتمعات؛ فان الامم تكتسب المزيد من التماسك وتعيد حساباتها وفق تلك المصالح، لا يمكن ان نعتبر هذا مصلحة او انتهازية فهذا منطق متهافت ولكنه إعتبار عملي وواقعي ادركته الامم المتحضرة والمزدهرة وشادت نهضتها على أساسه.

نريد ان ننقل إهتمامات المواطن العراقي الى مدارات جديدة تخص مستقبله ومستقبل عائلته.. مدارات تنأى به عن الآفاق الضيقة والنقاشات العقيمة والمشاعر المتخلفة. نريد ان نزج بمجتمعنا في النقاشات التي تجتاح الكون اليوم، ونجعل من انفسنا جزءاً من هذا الحوار العالمي المتعاظم حول قضايا باتت تشكل بالفعل تحديات لحياتنا في هذا الكوكب.

نطمح ان نكون جزءاً من هذا التطور الكوني الذي جعل التكنولوجيا وثورة المعلومات والتقدم الصناعي أدوات المنافسة والصراع بين الأمم، ولأجل هذا كله جاءت (الأوقات العراقية) بذرة نريد لها أن تطرح الثمار ولو بعد حين، وخطوة على الطريق الطويل الذي نأمل ان يتكلل في اخر المطاف بحالة من الوعي الإجتماعي والادراك النخبوي.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ...
الموضوع :
انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط
باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ...
الموضوع :
الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس
علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ...
الموضوع :
وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي
الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ...
الموضوع :
حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت.
ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ...
الموضوع :
صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
فيسبوك